إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
أدِلّة استحبابِ وَضع اليد اليُمنى على اليُسرى في الصلاة
روى مسلم في صحيحه عن وائل بن حُجْر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر ثم التحف بثوبه (ثم وضع يده اليمنى على اليسرى).
وروى ابن حِبّان في صحيحه عن وائل بن حُجْر أنه صَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوضع اليد اليمنى على اليد اليسرى فلما قال (ولا الضالين)، قال (ءامين).
وروى البخاريّ في صحيحه ومالك في الموطأ عن سهل بن سعد قال (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) قال أبو حازم لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود في السنن عن ابن مسعودٍ أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرءاه النبيّ صلى الله عليه وسلم (فوضع يده اليمنى على اليسرى).
وروى البيهقي في السُّنن الكبرى والصُّغرى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنا معاشرَ الأنبياء أمرنا بثلاث، بتعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة) ومثل ذلك مِن حديث عائشة بلفظ قريب، وفي رواية ابن حِبّان عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنا مَعْشَر الأنبياء أُمِرنا أن نُؤَخِّر سَحورنا، ونُعَجِّل فِطْرنا، وأن نُمْسِك بأَيماننا على شمائلنا في صلاتنا).
وفي السنن الكبرى للبيهقي أيضًا عن عمرو بن حُرَيثٍ قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع اليمنَى على اليسرى في الصلاة).
وروى ابن أبي شيبة في المصنَّف والرُّويانيّ في مُسنَدِه عن غُضَيفِ بن الحارث قال (مهما نَسِيت من الأشياء، فإِنِّي لم َأْنَس أَنِّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واضِعًا يدَه اليمنى على اليُسرى في الصلاة).
روى الترمذي في سننه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى.
وروى أبو داود في سننه عن أبي جُحَيفة أن عَلِيًّا رضي الله عنه قال (مِن السُّنّة وَضعُ الكَفّ على الكَفّ في الصلاة تحت السرة).
وروى مالك في الموطّأ عن عن عبد الكريم بن أبي الْمُخَارِق البصري أنه قال (مِن كلام النبوة إذا لم تَسْتَحِ فافْعَل ما شِئتَ، ووضعُ اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيل الفِطر والاستِيناء بالسَّحور).
وروى أبو داود في سننه والطبراني في الكبير والبيهقي في السُنَن عن عبد الله ابن الزبير أنّه قال (صَفُّ القَدَمَين ووَضْعُ اليَدِ على اليَدِ مِن السُّنَّة).
وفي المنتقى شرح الموطأ للحافظ الفقيه أبي الوليد سليمان بن خلف القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى 474 هـ)، وَضْعُ الْيَدَيْنِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ (فَصْلٌ) وَأَمَّا وضعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ أُسْنِدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ ثُمَّ الْتَحَفَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَقَدْ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ وَرَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ أَصْحَابِنَا عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الِاسْتِحْسَانُ وَالثَّانِيَةُ الْمَنْعُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ وَكَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِمَادِ وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ وَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى إنَّمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِمَادٌ فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ.
وَوَجْهُ اسْتِحْسَانِ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنْ الْخُشُوعِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَالِكٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ الْوَضْعَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِمَادِ وَمَنْ حَمَلَ مَنْعَ مَالِكٍ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ اعْتَلَّ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ أَهْلُ الْجَهْلِ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّتِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُوضَعُ الْيَدَانِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَيْسَ لِذَلِكَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَذْهَبُ وَضْعُهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنَّةُ وَضْعُهُمَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ مِنْ الْعَوْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَالْعَجْزِ وَقَوْلُهُ وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَالِاسْتِينَاءُ بِالسُّحُورِ سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ) انتهى كلام الباجي رحمه الله.
وفِي شَرْح صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض (المتوفى 544 هـ) المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام تحت صدره فوق سرته، ووضعهما في السجود على الأرض حذو منكبيه (حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، حَدَّثَنِى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، وَمَوْلى لَهُمْ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعِ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِى الصَّلَاةِ، كَبَّرَ – وَصَفَ هَمَّامٌ حِيَالَ أُذُنيْهِ – ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ.
قال القاضي رحمه الله تعالى (وذكر [في] الحديث وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة، ذهب جمهور العلماء وأئمة الفتوى إلى أخذ الشمال باليمين فى الصلاة، وأنه من سنتها وتمام خشوعها وضبطها عن الحركة والعبث، وهو أحد القولين لمالك فى الفرض والنفل ورأت طائفة إرسال اليدين فى الصلاة، منهم الليث وهو القول الآخر لمالك وكراهة الوجه الأول، قيل مخافة أن يعد من لوازمها وواجبات سنتها؛ ولئلا يظهر من خشوع ظاهره أكثر من باطنه، وخيرت طائفة منهم الأوزاعى فى الوجهين، وتأول بعض شيوخنا أن كراهية مالك له إنما هو لمن فعله عن طريق الاعتماد ولهذا قال مرة ولا بأس به فى النوافل لطول الصلاة فأما من فعله تسنناً ولغير الاعتماد فلا يكرهه.
واختلف فى حد وضع اليدين من الجسد، فقيل على الصدر وهو المروى عنه عليه السلام وقيل على النحر وهو قريب من القول الأول وقيل حيثما وضعهما جاز له وقيل فوق السُرَّة وهو مذهبنا وقيل تحتها والآثار بفعل النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك والحض عليه صحيحة والاتفاق على أنه ليس بواجب، وعن على رضى الله عنه فى قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أن معناه وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة يعنى على الصدر عند النحر وقيل فى معنى ذلك غير هذا من نحر الأضحية وصلاة العيد، وقيل نحر البدن) انتهى كلام القاضي رحمه.
رحم الله من كتبه ومن نشره.