إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
طواف الفرض الذي لا بدّ منه لصحة الحج هو طواف الإفاضة.
[واعلم] أن في الحج ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإِفاضة، وطواف الوداع. ومحل طواف الإِفاضة بعد الوقوف ونصفِ ليلة النحر أي ليلة عيد الأضحى، وطواف الوداع عند إرادة السفر من مكة بعد قضاء جميع المناسك. واعلم أن طواف القدوم سنة ليس بواجب.
[كيفية الطواف] إذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود. ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه بشرط أن لا يؤذي أحدًا بالمزاحمة فيستلمه ثم يقبله من غير صوت يظهر في القُبلة ويسجد عليه ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثًا، ثم يبتدئ الطواف ويقطع التلبية في الطواف. ويستحب أن يضطبع [1] مع دخوله في الطواف فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس، وكيفية الطواف أن يحاذي بجميعه جميع الحجر الأسود فلا يصح طوافه حتى يمر بجميع بدنه على الحجر الأسود.
[ويستحب في الطواف] الرَّمَل [2] بفتح الراء والميم وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخُطَا دون الوثوب والعَدْوِ ويقال له الخَبَب، والرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأُول، ويسن المشي على الهيْنة في الأربع الأخيرة.
ويستحب استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام اليماني وتقبيل اليد بعده عند محاذاتهما في كل طوفة وهو في الأوتار ءاكد لأنهما أفضل، فإن منعته زحمة من التقبيل اقتصر على الاستلام، فإن لم يمكنه أشار إليه بيده أو بشىء في يده ثم قبّل ما أشار به ولا يشير بالفم إلى التقبيل. ولا يستحب للنساء استلام ولا تقبيل إلا عند خلو المطاف.
الأذكار المستحبة في الطواف
يستحب أن يقول عند استلام الحجر الأسود أوَّلا وعند ابتداء الطواف أيضًا: “بسمِ الله، الله أكبرُ اللهمَّ إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدِك واتّباعًا لسنةِ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم” ويأتي بهذا الدعاء عند محاذاة الحجر الأَسود في كل طوفة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى ويقول: “الله أَكبرُ ولا إله إِلا الله“، قال: “وإن ذكر الله تعالى فصلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحسن”.
ويستحب أن يقول في رَمله: “اللهمَّ اجْعَلْه حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا“، ويقول في الأَربع الأخيرة: “اللهم اغفر وارحمْ واعفُ عما تعلم وأنتَ الأعزُّ الأكرم، اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار“، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار“.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: “هذا أحب ما يقال في الطواف”، قال: “وأُحبُّ أن يقال في كله”. قال بعض الشافعية: وهو فيما بين الركن اليماني والأَسود ءاكد. ويدعو فيما بين طوفاته بما أحبَّ من دينٍ ودنيا ولمن أحب وللمسلمين عامة، ولو دعا واحدٌ وأمَّن جماعة فحسن.
وينبغي الاجتهاد في ذلك الموطن الشريف، وقد جاء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال في رسالته المشهورة إلى أهل مكة: “إن الدعاء يستجاب هناك في خمسة عشر موضعًا: في الطواف، وعند الملتَزَم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وعند الجمرات الثلاث”. ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه يستحب قراءة القرءان في طوافه لأنه موضع ذكر والقرءان أعظم الذكر.
وليكثرْ في طوافه بين الحجر الأَسود إلى أن يصل إلى الركن اليماني من قول: “سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر“.
والموالاة بين الطواف سنة مؤكدة ليست بواجبة، ويستحب أن يكون في طوافه خاضعًا متخشعًا بظاهره وباطنه في حركته ونظره وهيئته، ويكره له الأكل والشرب في الطواف وكراهة الشرب أخف ولو فعلهما لم يبطل طوافه، ويكره أن يضع يده على فمه كما يكره ذلك في الصلاة إلا أن يحتاج إليه أو يتثاءب، فإن السنة وضع اليد على الفم عند التثاؤب، ويستحب أن لا يتكلم فيه بغير ذكر إلا كلامًا هو محبوب كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو لفائدة علم، ويكره أن يدافع البول أو الغائط أو الريح أو وهو شديد التوقان إلى الأكل وما في معنى ذلك، كما تكره الصلاة في هذه الأحوال، ويجب أن يصون نظره عما لا يحل له النظر إليه.
فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف وهما سنة مؤكدة على الأصح، والسنة أن يصليهما خلف المقام، فإن لم يصلهما خلف المقام لزحمة أو غيرها صلاهما في الحِجر، فإن لم يفعل ففي المسجد، وإلا ففي الحرم، وإلا فخارج الحرم. ولا يتعين لهما مكان ولا زمان بل يجوز أن يصليهما بعد رجوعه إلى وطنه.
ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى منها بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون]، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] ويجهر بالقراءة إن صلاهما ليلا ويسرّ إن كان نهارًا، ويستحب أن يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمور الآخرة والدنيا.
ولا يطيل الجلوس إن كان زحمة ويقتصر على الدعاء الوارد فقط ليفرغ المكان لغيره.
كذلك عند الوقوف للدعاء عند الملتزم وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود إذا كان الوقت زحمة يقف قليلا يدعو بدعاء وارد ثم يخلي المكان لغيره.
فإذا فرغ من ركعتي الطواف فالسنة أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا إلى المسعى فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الماوردي في كتابه الحاوي أنه إذا استلم الحَجَر استحب أن يأتي الملتَزَم ويدعو فيه ويدخل الحِجْر فيدعو فيه تحت الميزاب.
تنبيه: يحرم ما يفعله بعض الناس وقت الحج والزحمة من عمل حلقة قرب المقام ليصلي شخص وسطها حاجرين المكان عن غيره.
هامش:
[1]: والاضطباع معناه أن يمر طرف ردائه الأيمن من تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفي ردائه على كتفه الأيسر.
[2]: هذا في الطواف الذي يعقبه سعي.