إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
يقول الإمامُ القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم البصري ثم البغدادي ابن الباقلاني (ت 403 هـ) (ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك).
وقالَ رحمه الله (ما أطلَقَ اللهُ على نَفْسِهِ أطلقناهُ عليه وما لا فَلا) وقال في كتابه تمهيد الأوائل في حق الله تعالى ما نصه (فإن قال قائل أين هو قيل له الأين سؤال عن المكان، وليس هو ممن يجوز أن يحويه مكان ولا تحيط به أقطار).
وفي كتاب الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، إمام المُتَكَلِّمين أبي بكر الباقلاني الأشعري يٌنَزِّه اللهَ تعالى عن أن يكون العرشُ مُستَقَرَّهُ أو مكانَهُ فيقول (ولا نقول إن العرش له (أي لله) قرار (أي مُستَقَرّ أي لا نقول إن اللهَ مُستَقِرٌّ على العرش) ولا مكان لأنَّ الله تعالى كان ولا مكان فلَمَّا خَلَقَ المَكان لَمْ يَتَغَيَّرْ عمَّا كان).
ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك فقال (هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة، المتكلِّم على لسان أهل الحديث وطريق أبي الحسن وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة).
واعلم أن المسلمين اتفقوا على أن الله تعالى لا يحلُّ في مكان، ولا يحويه مكان ولا يسكن السماء ولا يسكن العرش، لأن الله تعالى موجود قبل العرش وقبل السماء وقبل المكان، ويستحيل على الله التغيّر من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة أخرى، فهو تبارك وتعالى كان موجودًا في الأزل بلا مكان، وبعد أن خلق المكان لا يزال موجودًا بلا مكان.
وليُعلم أن أهل الحديث والفقه والتفسير واللغة والنحو وعلماء الأصول، وعلماء المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (إلا من لحق منهم بأهل التجسيم) والصوفية الصادقين كلهم على عقيدة تنـزيه الله عن المكان، إلا أن المشبهة ومنهم نفاة التوسل شذّوا عن هذه العقيدة الحقة فقالوا إن الله يسكن فوق العرش والعياذ بالله تعالى، وممن نقل إجماع أهل الحق على تنـزيه الله عن المكان الشيخ محمد مَيَّارة المالكي (ت 1072 هـ) قال ما نصه (أجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف)، وقال الشيخ عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (ت 429هـ) فقد قال ما نصه (وأجمعوا (أي أهل السنة والجماعة) على أنه (أي الله) لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان)، وقال المحدث الشيخ محمد عربي التبان المالكي المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي (ت 1390هـ) ما نصه (اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منـزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته). اهـ