إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأندلسي عالم أهل الأندلس ومسندهم (توفي 543 هـ) ما نصه (إن الله سبحانه منزه عن الحركـة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزا كما لا يدنو إلى مسافة بشىء، متقدس الذا ت عن الآفات منزه عن التغيير، وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل).
واعلم أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تتضمن تنـزيه الله عن المكان والجهة، وقد استدل بها العلماء لتقرير هذه العقيدة السُّنيّة، نذكر منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم أنت الأوَّلُ فليس قبلَك شىءٌ، وأنت الآخِر فليس بعدَك شىءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقَكَ شىءٌ، وأنت الباطن فليس دونَك شىءٌ) رواه مسلم.
وقال الحافظ البيهقي الشافعي الأشعري ما نصه (استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه (أي عن الله) بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء)، وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان) انتهى كلام البيهقي.
وأما ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو أنكم دَلَّيْتُم رجُلاً بحبلٍ إلى الأرض السفلى لهبط على الله) رواه الترمذي، هو حديث ضعيف، لكن تأوَّله علماء الحديث على أن علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزه عن المكان، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (معناه أن علم الله يشمل جميع الأقطار، فالتقدير لهبط على علم الله، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الحلول في الأماكن، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن). اهـ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة، وذكره أيضًا الحافظ المحدِّث المؤرخ محمد بن طولون الحنفي وأقرَّه عليه.
وقال الحافظ المحدّث أبو بكر البيهقي الشافعي الأشعري بعد أن ذكر هذه الروايةَ ما نصه (والذي رُويَ في ءاخر هذا الحديث إشارةٌ إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه (الظاهر) فيصح إدراكه بالأدلة، (الباطن) فلا يصح إدراكه بالكون في مكان). اهـ
وكذلك استدل به أبو بكر بن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي على أن الله موجود بلا مكان، فقال ما نصه (والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته) أي أن الله منـزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة، ولا هو بجهة أسفل، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست، ومن استحال عليه الجهةُ استحال عليه المكانُ، فالله تعالى لا يحُل في شىء ولا يشبه شيئًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.