إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
يقول الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيروانيّ المالكي (رحمه الله المتوفى 386 هـ) في رسالته (وهو في كلّ مكان بعلمه)، أخذ بعض الشراح على أبي محمّد رحمه الله في هذا التعبير، وتسامح فيه بعضهم، ولم يتعرّض له ءاخرون، وأمّا أخذهم عليه فهو لأنّ اللفظ يوافق مذهب المعتزلة، كما ذكر الشيخ زرّوق في شرحه، ونصّ كلامه وقالت المعتزلة هو في كلّ مكان بالعلم لا بالذّات وظاهر كلام الشّيخ ينحو عليه، وذكر أنّ بعض الشرّاح قالوا إنّما يقال علمُهٌ مُحيطٌ بكلّ شيء، وقد نقل الشيخ أبو الحسن المنوفيّ في شرحه وجه الانتقاد على الشّيخ وأجاب بما أورد على المنتقدين فقال ما نصّه أخذ عليه أيضا في استعمال اللفظ من وجهين أحدهما أنه يفهم منه أن علمه متجزّئ مفارق لذاته، وليس كذلك بل هو صفة قديمة لا تفارق الذات، أجيب بأنّه أراد أنّ علمه محيط بجميع الكائنات في أماكنها وأراد أن يبيّن قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (سوة المجادلة 7) الآية أي علمه محيط بجميع الأمكنة. انتهى
وقد نقل الشيخ العدويّ في تتميم كلام المنوفيّ ما نصّه (المراد أنّ علمه تعالى متعلّق بجميع الكائنات في مكانها أي حالة كونها كائنة في مكانها أي فهي مكشوفة له غير خافية عليه، وحاصل معنى المصنّف أنّ الله يعلم ما حل في كلّ مكان بعلمه). انتهى
وقد ذهب بعض الشرّاح إلى نصرة أبي محمّد رحمه الله وتبرئته من طاعن يطعن فيه ويرميه بالتّجسيم فقالوا في هذه العبارة (وهو في كلّ مكان بعلمه) نفيٌ لما يُتوهّم في الّتي قبلها (فوق عرشه المجيدِ بذاتهِ) لأنّ الواحد بالذّات لا يتعدّد مكانه بل هو تعالى منزّه عن المكان، وكأنّه يقول هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلول والاستقرار، ذكر ذلك الشيخ زَرُّوق في شرحه على الرسالة.
وقد جاءت المعيّة في القرءان الكريم في مواضع كثيرة وحملت على معانٍ عديدة، فمن ذلك قوله تعالى (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (سورة محمّد 35)، فقد قال النّسفيّ في تفسيره معكم بالنّصرة أي ناصركم.
وقولُه أيضا (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (سورة التّوبة 40)، فقد قال الخازن في تفسيره بالنُّصرة والمَعُونة.
وأمَا تفسير الآية الّتي سبقت (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (سوة المجادلة 7) فقد قال ابن جرير الطّبريّ والنّسفيّ وغيرهما (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ) أي من التّناجي (ثَلَاثَةٍ) من خَلقه (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أي الله يسمع سرّهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيءٌ من إسرارهم، (ولا) يكون نجوى (خَمْسَةٍ) من خلقه (إلاّ هُو سَادسُهُم) أي يسمعُ سرّهم ونجواهم كذلك، (ولا) يتناحى (أَدْنَىٰ) أي أقلّ (مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) من ذلك من خَلقه (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) أي يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه، فهو تعالى منزّهٌ عن المكان.
وقد شذّ ابنُ تيمية شيخ المجسّمة في تفسير معنى المعيّة الواردة في متشابِه الآيات، فقال في مجموع فتاويه عند شرحه حديثَ عمرانَ بن حُصَين ما نصّه (وإن قُدِّر أنّ نوعها لم يَزَل معه فهذه المَعيَّة لم ينفها شرع ولا عقل بل هي من كماله، قال تعالى (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (سورة النّحل 17) والخَلق لا يزَالونَ مَعَه)) انتهى، فأثبت ابن تيمية بذلك أزليّة العالم وذلك كفر بإجماع الأمة كما نصّ عليه الزَّركَشيُّ في تشنيف المسامع فقال (وقد ضَلَّلَهُم المسلمون في ذلك وكفروهم، وقالوا من زعم أنّه (أي العَالَمَ) قديمٌ فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله تعالى، قالوا وهذا أخبث مِن قول النصارى لأنّ النصارى أخرجوا من عموم خَلْقِهِ شخصاً واحداً أو شخصين، ومَن قال بِقدَم العالم فقد أخرج العالم العُلْوِيّ والسُفلِي والملائكةَ عن كونه مخلوقاً لله تعالى. انتهى
وما يُذكَر في كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستانيّ فيما روي عن عبد الله بن نافع أنه قال قال مالك (الله في السّماء وعلمه في كلّ مكان لا يخلو من علمه مكان) فهذا التعبير لا يصحّ إثباته عن مالك لأنّه انفرد بروايته عبد الله بن نافع ولم يُتابَع عليه، وهذا ابن نافع متكلم في حفظه، وبذلك ذكره النووي في تهذيب الأسماء نقلاً عن الإمام أحمد والبخاريّ في حاله، وأورده ابن عَدِيّ في الكامل في الضعفاء وأثبت تضعيف أحمد والبخاريّ له، وتعرّض له ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب وذكر أنّ ابن نافع هذا دخله في بعض كلام مالك شكّ بسبب شيء في حفظه.
فما يرويه عبد بن نافع عن مالك أنه كان يقول (الله في السماء وعلمه في كل مكان) لا يثبت، كيف لا، وقد قال الإمام أحمد عبد الله بن نافع الصايغ، لم يكن صاحب حديث، وكان ضعيفا، ومثله قال البخاريّ فيه، وقال ابن عَدِيّ فيه يروى غرائب عن مالك، وقال ابن فَرحون فيه كان أصمَّ أميّا لايكتب، فكيف يُنسَب بمثل هذا السند إلى مثل مالك مثلُ هذا، وقد شهِرَ عنه رضي الله عنه مذهب التفويض كما كان عليه أكثر أهل المدينة على ما ذكره اللاّلِكائي في شرح السنة.