إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

التحذير من بعض ما أُلف في المولد
 
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله ثابت في القرءان والأحاديث الثابتة، ولا يحتاج في إثبات فضله إلى ذكر ما فيه كذب وغلو، فقد روى أحمد وابن حبان ([1]) عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تُطْروني كما أطرت النصارى عيسى، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله).
 
ثم إن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر الهين بل هو من كبائر الذنوب كما روى مسلم وغيره ([2]) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حدَّث عني بحديث يَرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)، وروى البخاري ومسلم وغيرهما ([3]) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار).
 
فتبين أن وصف الرسول بما لم يصح عنه وبما فيه كذب هو من قبيل الغلو المذموم، ولا يُحتج لذلك أنه من قبيل أحاديث الفضائل، فإن أحاديث الفضائل يُتساهل فيها برواية الضعيف عند الجمهور، أما المكذوب فلا يُقبل في الفضائل بالإجماع.
 
ومن المفاسد التي انتشرت، وأقبل على قراءتها كثير من العامة بعض الكتب التي أُلفت في المولد النبوي، وحُشيت بالأحاديث المكذوبة، والأخبار المعلولة، والغلو المذموم، والكذب على الدين، والتجسيم والتشبيه، فيحرم رواية تلك الأكاذيب من غير تبيين أمرها، ويجب التحذير منها.
ومن أشهر هذه الكتب المدسوسة الكتاب المسمى (مولد العروس) وفيه أن الله تعالى قبض قبضة من نور وجهه فقال لها كوني محمدًا فكانت محمدًا، وفي هذه العبارة نسبة الجزئية لله تعالى، وهو منزه عن الجزئية والانحلال، فهو لا يقبل التعدد والكثرة، ولا التجزء والانقسام، والله منزه عن ذلك لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شىء من خلقه (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) [سورة الشورى]، وحكم من يعتقد أن محمدًا أو غيره جزء من الله تعالى التكفير قطعاً قال تعالى (وجعلوا له من عباده جزءًا) [سورة الزخرف].
وهذا الكتاب ليس من تأليف ابن الجوزي رحمه الله، بل هو منسوب إليه زورًا وبهتانًا، وما في كتب ابن الجوزي من تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين ونفي التجسيم عن الله تعالى مخالف لما في هذا الكتاب المفترى، بل إن ركاكة ألفاظه، وضعف تركيب عباراته ما يدل على أنه ليس من تأليف ابن الجوزي المحدث الفقيه المفسّر الذي أُعطيَ باعًا قويًّا في الوعظ والإرشاد، فكان إذا تكلم حرك القلوب حتى إنه أسلم على يده مائة ألف أو يزيد وذلك بسبب قوة وعظه، وحسن تعبيره، وفصاحة منطِقه، فإنه كان رحمه الله على جانب كبير من الفصاحة وإتقان اللغة العربية، ولم ينسب إليه هذا الكتاب إلا المستشرق بروكلمان.
 
ومن المفاسد التي انتشرت بين العوام ما درج عليه بعض قرّاء المولد النبوي وبعض المؤذنين من قولهم (إن محمدًا أول المخلوقات) وما ذاك إلا لنشر حديث جابر المكذوب (أول ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر خلقه من نوره قبل الأشياء)، فهذا الحديث لا أصل له مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف للكتاب والسنة.
 
أما مخالفته للكتاب فقد قال الله تعالى (وجعلنا من الماء كل شىء حي) [سورة الانبياء]، وقال تعالى (قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي) [سورة الكهف].
 
وأما مخالفته للأحاديث الثابتة، فقد روى البخاري والبيهقي ([4]) عن عمران بن الحصين قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء).
 
وروى ابن حبان ([5]) من حديث أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقَرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء، قال (كل شىء خلق من الماء)، وروى السُّدي في تفسيره ([6]) بأسانيد متعددة (إن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء).
 
ففي الحديث الأول نص على أن الماء والعرش هما أول خلق الله، وأما ان الماء قبل العرش فهو مأخوذ من الحديثين التاليين.
 
وأما عزو حديث جابر للبيهقي فغير صحيح، وأما نسبته لمصنف عبد الرزاق فلا وجود له في مصنفه ولا في جامعه ولا تفسيره بل الموجود في تفسيره عكس هذا، فقد ذكر أن أول المخلوقات وجودًا الماء، وقال الحافظ السيوطي في الحاوي ([7]) عن حديث جابر (ليس له إسناد يُعتمد عليه) اهـ وهو حديث موضوع جزمًا، وقد صرح الحافظ السيوطي في شرح الترمذي أن حديث أولية النور المحمدي لا يثبت.
 
ويشهد لصحة حكمه عليه بالواضع ركاكة ألفاظه فإن الرسول أفصح خلق الله وأقواهم بلاغة فلا يتكلم بالركيك، وقد حكم الحافظ المحدث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري ([8]) عليه بالوضع محتجًّا بأن هذا الحديث ركيك ومعانيه منكرة، أقول الأمر كما قال، ولو لم يكن فيه إلا هذه العبارة (خلقه الله من نوره قبل الأشياء) لكفى ذلك ركاكة، لأنه مشكل غاية الإشكال، لأنه إن حُمِل ضمير من نوره على معنى مخلوق لله كان ذلك نقيض المدعى، لأنه على هذا الوجه يكون ذلك النور هو الأول ليس نور محمد، بل نور محمد ثاني المخلوقات، وإن حُمل على إضافة الجزء للكل كان الأمر أفظع وأقبح لأنه يكون إثبات نور هو جزء لله تعالى، فيؤدي ذلك إلى أن الله مركب، والقول بالتركيب في ذات الله من أبشع الكفر، لأن فيه نسبة الحدوث إلى الله تعالى، وبعد هذه الجملة من هذا الحديث المكذوب ركاكات بشعة يردّها الذوق السليم ولا يقبلها.
 
ثم هناك علة أخرى وهي الاضطراب في ألفاظه لأن بعض الذين أوردوه في مؤلفاتهم رووه بشكل، وءاخرون رووه بشكل ءاخر مختلف في المعنى، فإذا نُظر إلى لفظ الزرقاني ثم لفظ الصاوي لظهر اختلاف كبير.
 
أما حديث (كنت أول النبيين في الخلق وءاخرهم في البعث) فهو ضعيف ([9]) كما نقل ذلك المحدثون وفيه بقية ابن الوليد وهو مدلس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف.
 
أما حديث (كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين)، و (كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين) فلا أصل لهما ([10]) ولا حاجة لتأويلهم فإنه لا حاجة لتأويل الآية أو الحديث الصحيح لخبر موضوع لا أصل له.
 
ومن الكذب الذي انتشر في بعض كتب المولد قولهم لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك ([11])، فقد حكم عليه المحدثون بالوضع.
 
وكذلك ما روي أن جبريل عليه السلام كان يتلقى الوحي من وراء حجاب، وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يوحي إليه فقال جبريل (منك وإليك)، فهذا من الكذب الشنيع المخالف لقوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) [سورة الشورى].
 
وكذلك من الكذب ما روي في بعض كتب المولد عن أبي هريرة قال سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال يا جبريل كم عمرتَ من السنين؟، فقال يا رسول الله لا أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنين وسبعين ألف مرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (وعزة ربي أنا ذلك الكوكب).
 
والحمد لله أولاً وءاخرًا الذي وفقنا إلى جمع هذا الكتاب في مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسأله أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد النبي الكريم.
 
[1] – أخرجه أحمد في مسنده في مواضع (1 – 23، 24، 47، 55 – 56)، وابن حبان في صحيحه أنظر الإحسان (8 – 46).
 
[2] – أخرجه مسلم في صحيحه، المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ماجاء فيمن روى حديثًا وهو يرى أنه كذب، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا وهو يرى أنه كذب.
 
[3] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء، ومسلم في صحيحه، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في التشديد في الكذب على رسول الله، والترمذي في سننه،كتاب العلم، باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
[4] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1 – 364).
 
[5] – صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، فصل في قيام الليل، راجع الإحسان (4 – 115).
 
[6] – فتح الباري (6 – 286).
 
[7] – الحاوي للفتاوى (1 – 325).
 
[8] – المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير (ص – 4).
 
[9] – المقاصد الحسنة (ص – 520)، كشف الخفا (2- 169)، أسنى المطالب (ص – 244).
 
[10] – التذكرة في الأحاديث المشتهرة (ص – 172)، المقاصد الحسنة (ص – 522)، كشف الخفا (2 – 173)، تنزيه الشريعة (1 – 341)، الأسرار المرفوعة (ص – 178)، أسنى المطالب (ص – 202).
 
[11] – حكم على وضعه العجلوني في كشف الخفا (2 – 232)، والصغاني في موضوعاته (ص – 52).