إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
ـ وقال أيضًا مبيِّنًا أن الله يستحيل عليه التحيّز في جهة من الجهات ما نصه: “لو كان في جهة لم يخل إما أن يكون في كل جهة أو في جهة واحدة، فإن كان في كل جهة فلا جهة لنا إلا والرب فيها، وهو محال، وإن كان في جهة مخصوصة، فإما أن يستحقها لذاته أو لمخصص، لا جائز أن يستحقها لذاته، إذ نسبة سائر الجهات إليه على وتيرة واحدة، فإذًا لا بد من مُخصصٍ، وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين:
الأول: أن المخصص إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا لزم منه اجتماع قديمين وهو محال، وإن كان حادثًا استدعى في نفسه مخصصًا ءاخر، وذلك يفضي إلى التسلسل وهو ممتنع.
الوجه الثاني: هو أن الاختصاص بالجهة صفة للرب تعالى قائمة بذاته، أي على قول معتقد الجهة في الله، ولو افتقرت إلى مخصص لكانت في نفسها ممكنة، لأن كل ما افتقر في وجوده إلى غيره فهو باعتبار ذاته ممكن، وذلك يوجب كون البارىء ممكنًا بالنسبة إلى بعض جهاته، والواجب بذاته يجب أن يكون واجبًا من جميع جهاته” اهـ.
________________________________________
10ـ وقال السبكي الشافعي :”صانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيزًا ولو كان متحيزًا لكان مفتقِرًا إلى حيّزه ومكانه فلا يكون واجب الوجود وثبت أنه واجب الوجود وهذا خُلْفٌ، وأيضًا فلو كان في جهة فإما في كل الجهات وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصِّص المنافي للوجوب” اهـ أي الاحتياج إلى المخصِّص ينافي كونه واجب الوجود، فثبت استحالة الجهة والمكان على الله تعالى.
________________________________________
11ـ وقال العلامة البياضي الحنفي (1098هـ) في كتابه “إشارات المرام” ممزوجًا بالشرح ما نصه :”الخامس: ما أشار إليه ـ أبو حنيفة ـ (وقال في “الفقه الأبسط”: كان الله تعالى ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين) أي مكان (ولا خلق ولا شىء و{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102]) مُوجِد له بعد العدم فلا يكون شىء من المكان والجهة قديمًا وفيه إشارات:
الأولى: الاستدلال بأنه تعالى لو كان في مكان وجهة لزم قدمهما، وأن يكون تعالى جسمًا، لأن المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم، والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني، وكل ذلك مستحيل كما مر بيانه، وإليه أشار بقوله: “كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء وهو خالق كل شىء”. وبطل ما ظنه ابن تيمية منهم من قدم العرش كما في شرح العضدية.
الثانية: الجواب بأن لا يكون البارىء تعالى داخل العالم لامتناع أن يكون الخالق داخلاً في الأشياء المخلوقة، ولا خارجًا عنه بأن يكون في جهة منه لوجوده تعالى قبل خلق المخلوقات وتحقق الأمكنة والجهات، وإليه أشار بقوله:{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102] وهو خروج عن الموهوم دون المعقول” اهـ.
________________________________________
12ـ وقال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر ابن المعلم القرشي الدمشقي (725هـ) ما نصه: “قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري القرطبي: والذي يقتضي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان:
أحدهما: أن الجهة لو قدّرت لكان فيها نفيُ الكمال، وخالق الخلق مستغنٍ بكمال ذاته عمّا لا يكون به كاملاً.
والثاني: أن الجهة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة أدّى إلى مُحالين، أحدهما أن يكون مع البارىء في الأزل غيرُه، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكانًا للثاني بأولى من الآخر، فافتقر إلى مخصِّصٍ يُنقَلُ الكلام إليه، وما يُفْضي إلى المحال محال” اهـ.
________________________________________
13ـ وقال الحافظ المحدّث اللغوي الفقيه السيد محمد مرتضى الزَّبيدي الحنفي (1205هـ) عند شرح كلام الغزالي: “الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكِّن جسمًا مماسًا للعرش: إما مثله أو أكبر منه أو أصغر، وذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال” ما نصه: “وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانًا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه، فإن كان مثل المكان فهو إذًا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعًا كان هو مربعًا أو كان مثلَّثا كان هو مثلَّثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان، ويُشْعِرُ ذلك بأنه متجزىء وله كلٌّ ينطوي على بعض، وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير، وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارىء تعالى فتجوّزه في حقه كفر من معتقِدِه، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون، وقبيح وصف البارىء بالكون، ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته، ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثًا، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه. وقصارى الجهلة قولهم: كيف يتصوّر موجود لا في محل؟ وهذه الكلمة تصدر عن بدع وغوائل لا يَعْرِفُ غورَها وقعرها إلا كلُّ غوّاص على بحار الحقائق، وهيهات طلب الكيفية حيث يستحيل محال.
والذي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أن يُقال لهم: قبلَ أن يَخْلُقَ العالم أو المكانَ هل كان موجودًا أم لا؟ فمِن ضرورة العقلِ أن يقول: بلى، فيلزمه لو صحَّ قولُه: لا يُعلمُ موجود إلا في مكان أَحَدُ أمرين: إما أن يقول: المكان والعرش والعالم قديم، وإما أن يقول: الربُّ تعالى محدَثٌ، وهذا مآلُ الجهلة والحشويةِ، ليس القديمُ بالمحدَثِ، والمُحدَثُ بالقديم. ونعوذ بالله من الحَيْرة في الدين” اهـ.
________________________________________
14ـ وقال ما نصه: “فإن قيل: نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه إذ لا عدَم أشد تحقيقًا من نفي المذكور عن الجهات الست. قلتُ: النفي عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدم ما لو كان لكان في جهة من النافي لا نفي ما يستحيل أن يكون في جهة منه، ألا ترى أن من نفى نفسه عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدمه لأن نفسه ليست بجهة منه. وأما قول المعتزلة: القائمان بالذات يكون [كل] واحد منهما بجهة صاحبه لا محالة، فالجواب عنه: هذا على الإطلاق أم بشريطة أن يكون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ الأوّل ممنوع، والثاني مُسَلَّم، ولكن البارىء تعالى يستحيل أن يكون محدودًا متناهيًا.
(تنبيه) هذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سُني لا محدِّث ولا فقيه ولا غيره ولا يجىء قط في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفية معنًى ولفظًا وكيف لا والحق يقول:{ليس كمثله شىء} (سورة الشورى/11) ولو كان في جهة بذلك الاعتبار لكان له أمثال فضلاً عن مثل واحد” اهـ