إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الردة هي قطع الإسلام وتنقسم إلى ثلاثة أقسام أفعال وأقوال واعتقادات كما اتَّفقَ على ذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، كابن عابدين (ت 1252 هـ) وغيره من الحنفية، ومحمد عليش (ت 1299 هـ) وغيره من المالكية، والنووي (ت 676 هـ) وغيره من الشافعية، والبهوتي (ت 1051 هـ) وغيره من الحنابلة.
وكلٌّ من الثلاثة كفرٌ بمفردِهِ فالكفرُ القوليُّ كفرٌ ولو لم يقترن به اعتقادٌ أو فعلٌ، والكفرُ الفِعْلِيُّ كفرٌ ولو لم يقترن به قول أو اعتقادٌ أو انشراحُ الصَّدْر به، والكفرُ الاعتقادي كفرٌ ولو لم يقترن به قولٌ أو فعلٌ، وسواء حصول هذا من جاهل بالحكم أو هازل أو غضبان، قال الله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة 66 – 65، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ الرَّجلَ لَيَتَكلَّمُ بالكلمةِ لا يَرى بها بأسًا يهوِي بِها سبعينَ خريفًا في النَّارِ) رواه الترمذي وحسنه، وفي معناه حديث رواه البخاري ومسلم.
 
وقال الإمام المجتهد محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) في كتابه تهذيب الآثار (إن من المسلمين من يخرج من الإسلام من غير أن يقصد الخروج منه).
وقال الحافظ الكبير أبو عوانة (ت 316 هـ) الذي عمل مستخرجا على مسلم، فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج 12 – 301 – 302 (وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام).
 
وفي التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب لخليل بن إسحاق بن موسى ضياء الدين الجندي المالكي المصري (المتوفى 776هـ) الرِّدَّةُ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِسْلامِ، وَتَكُونُ بصَرِيحٍ، وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، وَبفِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (حد المصنف الردة ظاهر التصور ونسأل الله العظيم بجاه النبي الكريم أن يعصمنا منها وأن يميتنا على الإسلام وهو راض عنا وأن يقلع من قلوبنا رعونات البشرية.
قوله (وَتَكُونُ) أي الردة، ويجوز أن تقرأ بالياء المثناة من تحت، تعود حينئذٍ على الكفر الصريح كالكفر بالله وبرسوله، واللفظ الذي يقتضيه كجحد الصلاة والصوم وما علم من الدين ضرورة، أو ادعى أن للنجوم تأثيراً، والفعل المضمن قالوا كإلقاء المصحف في القاذورات وتلطيخ الكعبة بها وشد الزنار ببلاد الإسلام، والسجود للصنم، ونقل ابن عبد السلام، وابن راشد عن القرافي، أن الخطيب إذا جاءه من يريد النطق بكلمة الإسلام، فقال اصبر حتى أقرأ خطبتي أنه يحكم بكفر الخطيب لأن ذلك يقتضي أنه أراد بقاءه على الكفر….).
 
وقال الشيخ عبد الله بن الحسين بن طاهر الحضرمي (ت 1272 هـ) في كتابه سلم التوفيق إلى محبة الله على التحقيق (يجب على كل مسلم حفظُ إسلامه وصونُهُ عمَّا يفسده ويبطلُهُ ويقطعُهُ وهو الرّدةُ والعياذ بالله تعالى وقد كثُرَ في هذا الزمان التساهلُ في الكلام حتى إنَّهُ يخرج من بعضهم ألفاظٌ تُخرجهم عن الإسلام ولا يَرَوْنَ ذلك ذنبًا فضلاً عن كونه كفرًا).
 
وقال مختصره الإمام المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرري (ت 1429 هـ) ص 14 (وذلك مصداقُ قوله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا) أي مسافة سبعين عامًا في النـزول وذلك منتهى جهنم وهو خاصٌ بالكفار والحديث رواه الترمذي وحسَّنَه. وفي معناه حديث رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث دليل على أنه لا يشترط في الوقوع في الكفر معرفة الحكم ولا انشراح الصدر ولا اعتقاد معنى اللفظ.
 
وقال السيد البكري الدمياطي (ت 1310هـ) في إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (م 2 ج 4 – 133) واعلم أنه يجري على ألسنة العامة جملة من أنواع الكفر من غير أن يعلموا أنها كذلك فيجب على أهل العلم أن يبينوا لهم ذلك لعلهم يجتنبونه إذا علموه لئلا تحبط أعمالهم ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العقاب، ومعرفة ذلك أمر مهمّ جدًا، وذلك لأن من لم يعرف الشرّ يقع فيه وهو لا يدري، وكل شرّ سببه الجهل، وكل خير سببه العلم، فهو النور المبين، والجهل بئس القرين.
 
ويقول الحافظ الفقيه محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى (ت 1205هـ) في كتابه اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين،ج 5 – 333، ما نصه (وقد ألف فيها (الردة) غير واحد من الأئمة من المذاهب الأربعة رسائل وأكثروا في أحكامها).