إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الزّريقة (الإبرة) لا تخلّ بالصوم (1)
 
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ و آلِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ والصالحينَ.
 
السؤال هل تزريق الدواء للصائم مخل بالإمساك ومفسد للصوم؟
 
الجواب بعد الديباجة، أما بعد فقد كثر الخوض هذه الأيام فِى استعمال الصائم الأدوية بواسطة التزريق تحت البشرة هل يبطل الصيام، والجواب أنَّ استعمال الأدوية على الوجه المذكور لا يخل بالصوم ولا يوجب الإفطار لأن الصوم الشرعِىَّ هو الإمساك عن الأكل والشرب ومباشرة النساء كما يدل عليه قوله تعالى (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (2) والتزريق خارج عن مسمى الأكل والشرب وإنما هو من باب التداوِى الذِى لم يرد المنع فيه ونصّ الأئمة على إباحته.
 
ففِى المدونة وإن قطر فِى إحليله دُهنًا أو استدخل فَتائِلَ أو داوَى جائفة (أى جُرحًا فى الجوف) بدواء مائعٍ أو غير مائع فلا شىء عليه (3) وحصر العلماء الغذاء الذى يحصل به الإفطار فيما وصل إلى الحلق من منفذ أعلى ولو ضيقًا، وفيما وصل إلى المعدة من أسفل بشرطِ أن يكون منفذًا واسعًا.
فإن قيل إن تزريق الأدوية تحت الجلد وإن لم يوصل الدواء إلى الحلق أو المعدة لكنه يُحَصِّلُ للصائم من القوة ما يزيل به مشقة الصوم فيكون بمنزلة الغذاء الواصل إلى الحلق أو المعدة ويخل بحكمة الصوم من توهين القوى وإضعافها، قلتُ تندفع هذه الشبهة بتحقيق أمرين:
 
الأول بيان الحكمة الأصلية من الصوم.
الثانِى بيان أن تحصيل المشقة غير مطلوب للشرع فِى التكليف، فأما الحكمة الأصلية فِى تشريع الصوم فلا نسلم أنها توهين القوى بل حمل الإنسان على التخلق بفضيلة الصبر، وكبح جماح النفس فِى استقصاء شهواتها، والاسترسال فِى ملذاتها إذ التمتع بالطيبات من الأطعمة ومباشرة النساء لَمّا طُبعت الأنفس على حبه حتى ركبت الصعب والتلول فِى سبيل الوصول إليه والاستئثار به ولا شك أن الصوم يكسر من سورة هذا الطغيان لمنعه من إدراك هذه الفوائد وانتصابه حاجزًا منيعًا لمن مدَّ اليد إليها إلى أن يقبل الليل، وهذا المعنى حاصل لكل قوِىّ وضعيف سواء كان مستعمِلًا للمقويات أو كان تاركًا لها، فلم تختل حينئذ حكمة الصوم ولم تندفع مشقة الامتناع من تناول المستلذات وربما أومأ إلى هذه الحكمة الحديث الصحيح الذى أخرجه مالك فِى الموطأ عن أبِى هريرة رضِى الله عنه أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (والذِى نفسِى بيده لخُلُوفُ فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك إنّما يذر شهواته وطعامه وشرابه من أجلِى فالصيام لِى وأنا اجزِى به) (4).
 
وأما بيان أن المشقة غير مكلف بها ولا منظور إليها فِى الأمر الشرعِىّ فحاصله أنَّ المصلحة هِى المقصودة شرعًا من الأمر ولتحصيلها وقع الطلب فإن تبعتها مفسدة فليست بمقصودة فِى شرعية ذلك الفعل وطلبه (5)، فالمكلف يقصد فِى التكليف ما كلف به من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلًا أو ءاجلًا لا من جهة أنّه مشقة.
 
والله أعلم.
 
(1) المرجع كتاب فتاوى الشيخ محمد العزيز جعيط رحمه الله تعالى الفتوى رقم 15.
(2) سورة البقرة 187.
(3) انظر سحنون المدونة 177 – 1.
(4) انظر مالك الموطأ كتاب الصيام باب جامع الصيام 310 – 1.
(5) انظر الشاطبِى الموافقات 123 – 1.