إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الشيخُ أبو مَدْيَن (1) الأَنْدَلُسِيُّ المالِكي شيخُ أهلِ المغربِ المُتَوَفَّى سنةَ تسعين وخَمسِمائةَ، يقول في عقيدَتِهِ كَلِماتٍ جامِعَاتٍ لِأُسُسِ عقيدَتِنا الحقَّةِ (القدوس على العرش استوى من غير تمكن ولا جلوس) في مخطوط في جامعة باريس.
وقال (الحمد لله الذي تنـزه عن الحد والأين والكيف والزمان والمكان المتكلم بكلام قديم أزلي صفة من صفاته قائم بذاته لا منفصل عنه ولا عائد إليه ولا يحُل في المحدثات ولا يجانس المخلوقات ولا يوصف بالحروف والأصوات تنـزَّهت صفات ربنا عن الأرض والسمـٰوات، اللهُمّ إنَّا نُوَحِّدُكَ ولا نَحُدُّك ونُؤْمِنُ بِكَ ولا نُكيِّفُكَ ونَعْبُدُكَ ولا نُشَبِّهُكَ ونَعْتَقِدُ أنَّ من شَبَّهَكَ بِخَلْقِكَ لَمْ يَعْرِفِ الخَالِقَ مِنَ المَخْلُوقِ).
ومعنى لاَ نَحُدُّكَ أي لا نَعْتَقِدُ أنَّكَ حَجْمٌ أيْ نَنْفي أنْ يكونَ الحجْمُ من صِفاتِكَ، الأحجَامُ محدودَةٌ بِحدٍّ، الحجمُ مهما صَغُرَ كالذَرَّةِ أو كَبُرَ كالعرْشِ العظيمِ فهُوَ محدودٌ بِحدٍّ خَلَقَهُ اللهُ، أمّا اللهُ فهو ليسَ حجْماً، ليسَ جِسْماً، فتنزَّهَ وتقدَّسَ سُبْحانَهُ عن الحدِّ، الحدُّ أي الحجْمُ جعَلَهُ اللهُ من صفات الأجسام أمّا الخالِقُ فلا يوصَفُ بالحَدِّ.
الكيف هو ما كان من صفات الأَحجام فمعنى لا نُكيِّفُك أي نُنَزِّهُكَ عنِ الهيأَةِ والصُّورَةِ والشّكْلِ وغير ذلك من صفات الأحجام.
ومعنى لا نُشّبِّهُكَ أي لا نصفك بما يوصف به المخلوق، فمِمَّا توصف به الأَحجامُ الأعْرَاضُ، والأعْرَاضُ هي كاللّون والحركةِ والسكونِ والبُرودَةِ والسُخوَنَةِ وغيرِ ذلك والأَحجامُ توصف كذلكَ بالاِتِّصالِ والاِنْفِصَالِ وكلُّ ذَلِكَ مستحيل في حق الله.
ومن علمائنا المالكية من تأول الاستواء على العرش بالقهر والاستيلاء الشيخ برهان الدين إبراهيم اللقاني المالكي (ت 1041 هـ) في شرحه على منظومته جوهرة التوحيد والشيخ أحمد بن غنيم النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني قال ما نصه (استوى أي استولى بالقهر والغلبة استيلاء ملك قاهر وإله قادر، ويلزم من استيلائه تعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه). اهـ
والشيخ محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المالكي (ت 1227 هـ) في شرحه على توحيد العالم الماهر سيّدي عبد الواحد بن عاشر مفسرًا الاستواء على العرش بالقهر والغلبة، كقوله (فلما علونا واستوينا عليهم *** جعلناهم مرعى لنسر وطائر) وقوله (قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مــهــراق) وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن استولى على أعظمها كان استيلاؤه على غيره أحرى). اهـ
والشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنوفي المالكي المصري (ت 939 هـ) قال في كتابه كفاية الطالب ما نصه (فمعنى استوائه على عرشه أن الله تعالى استولى عليه استيلاء ملك قادر قاهر، ومن استولى على أعظم الأشياء كان ما دونه في ضمنه ومنطويًا تحته، وقيل الاستواء بمعنى العلو أي علو مرتبه ومكانة لا علو المكان). اهـ.
والشيخ إسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المالكي (ت 1316 هـ) قال في شرحه على العقيدة الصغرى (وأما قوله تعالى في سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فمعناه والله أعلم أنه مستول بقهره وعظمته وسلطانه، وليس المعنى أنه جالس على العرش، لأن هذا من صفات الحوادث وهو محال في حقه تعالى، وبالجملة فكل ما خطر ببالك من صفات الحوادث فالله بخلاف ذلك). اهـ
والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبو زيد الثعالبي المالكي (ت 875 هـ) قال في تفسيره الجواهر الحسان (والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ويبقى استواء القدرة والسلطان). اهـ
والعالم النحوي الأصولي الفقيه المالكي أبو عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 هـ) قال في أماليه (فإنما أتى بـ (على) لـما في الاستواء من معنى الاستعلاء، ألا ترى إلى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله للشاعر (قد استوى بشر على العراق) يريد بذلك علو القهر، بدليل قوله في عقيدته عن الله (وعدم حلوله في المتحيز، وعدم اتحاده بغيره، وعدم حلوله فيه، واستحالة كونه في جهة). اهـ
والمفسر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) قال في تفسيره (وقيل علا دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال استوى بمعنى أنه ارتفع، قال البيهقي ومراده من ذلك – والله أعلم – ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء، وقيل إن المستوى الدخان، وقال ابن عطية وهذا يأباه وصف الكلام، وقيل المعنى استولى، كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق** من غير سيف ودم مهراق، قال ابن عطية وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قلت قد تقدم في قول الفراء عليّ وإليّ بمعنى، وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. اهـ
والشيخ الفقيه الأصولي المفسر شهاب الدين أحمد القَرافي المالكي (ت 684 هـ) قال في كتابه الذخيرة ما نصه (ومعنى قول مالك الاستواء غير مجهول، أن عقولنا دلتنا على الاستواء اللائق بالله وجلاله وعظمته، وهو الاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام). اهـ
والقاضي الفقيه الإمام الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد المالكي قاضي الجماعة بقُرْطُبة المعروف بابن رشد الجد (ت 520 هــ) قال ما نصه (والاستواء في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (سورة الأعراف) معناه استولى قاله الواحدي وقيل معناه القهر والغلبة ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل موافقًا له ومقــرًّا لكلامه.
والمفسر أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 541 هـ) قال في تفسيره وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان. اهـ وقال وقد تقدم القول في كلام الناس في الاستواء، واختصاره أن أبا المعالي رجّح أنه استوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره (اسْتَوَى) في هذا الموضع استولى. اهـ
(1) أَبُو مَدْيَنَ شُعَيْبُ بنُ حُسَيْنٍ الأَنْدَلُسِيُّ الزَّاهِدُ، شَيْخُ أَهْلِ الـمَغْرِبِ، وسيد العارفين وقدوة السالكين في عصره، واشتهر بشيخ المشايخ، كَانَ مِنْ أَهْلِ العمل وَالاجتهَاد، مُنْقَطِع القرِيْن فِي العِبَادَةِ وَالنُّسك.
قال الشيخ أبو عبد الله التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب (كان الشيخ سيدي أبو مدين فردًا من أفراد الرجال وصدرًا من صدور الأولياء الأبدال جمع الله له علم الشريعة والحقيقة).
وقد ذكر التادَلي وغيره أنه خرّج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات، وقال التادلي كان مبسوطًا بالعلم مقبوضًا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك).
وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته (كان أبو مدين زاهدًا فاضلا عارفًا بالله تعالى خاض بحار الأحوال ونال أسرار المعارف خصوصًا مقام التوكل لا يشق غباره ولا تجهل آثاره).
وقال الشعراني في الطبقات الكبرى (قال الشيخ أبو الحجاج الأقصري سمعت شيخنا عبد الرزاق رضي الله عنه يقول لقيت الخضر عليه السلام سنة ثمانين وخمسمائة فسألته عن شيخنا أبي مدين، فقال هو إمام الصديقين في هذا الوقت).