إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال الشيخ العلامة المحدث عبد الله العبدري في إثبات تنـزيه الله عن المكان ما نصه:
والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أو لا، فيكون محلاًّ للحوادث، وكلا ذلك مستحيل، وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا، أو يزيد عليه فيكون متجزئًا، وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سفل ولا غيرهما، لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء، ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنزهه تعالى عن المكان يقول: جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها، وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله.
 
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض، ويحصل ذلك للسلاطين، فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفل منهم، فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن. ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا الأرض، وفي الآخرة الجنة، وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم. اهـ
 
وقال أيضًا ما نصه: تنـزيه الله عن المكان وتصحيح وجوده بلا مكانٍ عقلاً والله تعالى غنيٌّ عن العالمين، أي مستغن عن كلّ ما سواه أزلا وأبدًا، فلا يحتاجُ إلى مكان يقومُ به أو شىء يحُلُّ به أو إلى جهة، ويكفي في تنزيه الله عن المكان والحيّز والجهة قوله تعالى (ليس كمثله شىء) [سورة الشورى 11]، فلو كان له مكان لكان له أمثالٌ وأبعادٌ طولٌ وعرضٌ وعمقٌ، ومن كان كذلك كان محدَثًا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، هذا الدليل من القرءان.
 
أما من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقي بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كان الله ولم يكن شىء غيره)، ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيرُهُ لا ماءٌ ولا هواءٌ ولا أرضٌ ولا سماءٌ ولا كرسيٌّ ولا عرش ولا إنسٌ ولا جنٌّ ولا ملائكةٌ ولا زمانٌ ولا مكانٌ، فهو تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه، وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور.
 
وقال البيهقيُّ في كتابه الأسماء والصفات ما نصه: استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت الظاهرُ فليس فوقكَ شىءٌ وأنت الباطنُ فليس دونكَ شىءٌ)، وإذا لم يكنْ فوقَهُ شىءٌ ولا دونَهُ شىءٌ لم يكنْ في مكانٍ. اهـ وهذا الحديثُ فيه الردُّ أيضًا على القائلينَ بالجهةِ في حقهِ تعالى، وَقَدْ قال عليٌّ رضي الله عنهُ (كانَ الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كانَ) رواه أبو منصورٍ البغداديُّ.
 
وليس محور الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقلُ الصحيحُ السليمُ الذي هو شاهدٌ للشرع، وذلك أنَّ المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلك الحد فلا يكون إلهًا، فكما صحَّ وجودُ الله تعالى بلا مكانٍ وجهةٍ قبل خلقِ الأماكن والجهات فكذلك يصحُّ وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكانٍ وجهةٍ، وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى. انتهى كلام الشيخ العبدري.
 
وقال أيضًا في الرد على المشبهة المجسمة الذين يقولون بالعلو الحسي في حق الله ما نصه:
والعلو على وجهين: علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان، لأنه لا شأن في علوّ المكان إنما الشأن في علو القدر، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانًا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه (إن رحمتي سبقت غضبي) مساويًا لله في الدرجة على قول أولئك (أي على قول من قال إن الله فوق العرش بذاته)، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه، مساويًا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى (الرحمنُ على العرش استوى) [سورة طه 5] بعلا على العرش كما رواه البخاري. انتهى كلام العبدري، وهو نفيس جدًّا، فتمسك به تسلم من شبهات المجسمة المشبهة.
 
وقال أيضًا ما نصه:
ثم إن المتكلمين على لسان أهل السنة قالوا: الموجود ثلاثة أقسام موجود متحيز قائم بنفسه وهو الجواهر والأجسام وهي ما تركب من جوهرين فأكثر كالإنسان والحيوان والشجر والقمر والعرش والنور والريح ونحو ذلك، وموجود غير قائم بنفسه تابع للمتحيز وهو العرض كحركة الجوهر وسكونه وحرارته وبرودته وطعم الحلاوة وطعم المرارة، وموجود ليس بمتحيز ولا تابع لمتحيز وهو الله، والدليل النقلي على ذلك قوله تعالى (ليس كمثله شىء) [سورة الشورى 11] لأنه لو كان كأحد القسمين الأولَين لكان له أمثال، وقد نفت هذه الآية مشابهة الله لغيره بوجه من الوجوه لأن كلمة (شىء) المذكورة في الآية وقعت نكرة في معرض النفي فهي للعموم لا للخصوص كما تدعي مُشَبّهة العصر الوهابية أن معناها أنه لا يشبه شيئًا من الأشياء التي نعرفها ليتوصلوا بهذا إلى إثبات عقيدتهم أن الله جرم متصل بالعرش، فكأنهم قالوا الله لا يشبه بعض الأشياء، ويشبه بعض الأشياء وكفاهم هذا إلحادًا. اهـ
 
وقال أيضًا في تنـزيهه تعالى عن الجهة ما نصه: والله تعالى متنزه أيضًا عن الجهات والأماكن إذ الجهات والأماكن خَلْقُهُ أحدثها بعد أن لم تكن فلا يوصف تعالى بالفوقية بالحيز والمكان فلو كان فوق العالم بالحيز والمكان لكان محاذيًا له والمحاذي للجسم إمّا أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر منه مساحة، وما يقدّر بالمساحة محتاج لمن خصه بها والمحتاج حادث، ولو كان مُقَدَّرًا بالمِساحة لصحت الألُوهِيَّةُ للشمس ونحوها من الكواكب، وأمّا رفع الأيدي والوجوه إلى السماء عند الدعاء فلأنها قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصّلاة تستقبل بالصّدر، وفي رفع اليد والرأس إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والعظمة. اهـ
 
وقال أيضًا في بيان الدليل العقلي على تنـزيه الله عن الجهة ما نصه: والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أوْ لا فيكون محلاًّ للحوادث وكلا ذلك مستحيل، وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا أو يزيد عليه فيكون متجزئًا، وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سُفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء.
 
ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنـزهه تعالى عن المكان يقول: جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله.
 
فالجواب أن يقال لهم:
الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن، ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا: الأرض وفي الآخرة: الجنة وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم.
 
ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى، ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجرامًا متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضًا، وإن أهل الحق لا يثبتون هذا ولا يثبتون هذا، بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا متناه ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم انتهى الخلاء والملاء، والملاء هو الجرم المتواصل. اهـ