إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

حكم الزكاة في العملة الورقية
 
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمَضْرُوبِ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الأَثْمَانِ فَلا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الإِمَامِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَتَجِبُ عِنْدَ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهَذِهِ الْعُمْلَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ الإِمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَتَجِبُ عِنْدَ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا تَرُوجُ رَوَاجَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ الإِمَامَيْنِ الأَوَّلَيْنِ فَلَمْ يُزَكِّ هَذِهِ الْعُمْلَةَ الَّتِي لا يَسْتَعْمِلُهَا فِي التِّجَارَةِ فَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَزَكَّاهَا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ.
فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى الإِمَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُنْكِرَ فَإِنَّ مَذْهَبَيْهِمَا يَلْحَظَانِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا ذَكَرَ فِي ءَايَةِ بَرَاءَةَ وَعِيدًا إِلَّا فِيمَنْ مَنَعَ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (سُورَةَ التَّوْبَة 34)، فَكَيْفَ يُعْتَرَضُ عَلَى الإِمَامَيْنِ وَمَأْخَذُهُمَا هَذَا النَّصُّ، فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَذْهَبَيِ الإِمَامَيْنِ وَلا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمَالِكِيِّ أَنْ يُنْكِرَا عَلَى الْحَنَفِيِّ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيْمِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ وَمَالِكًا، وَأَمَّا مَنْ وَضَعَ مَالَهُ مِنَ الْعُمْلَةِ الْوَرَقِيَّةِ فِي بَنْكٍ حَرْبِيٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ هَذِهِ الْعُمْلَةَ الْوَرَقِيَّةَ.
 
أما مَن قلّب هذه العملة الورقية في البيع والشراء لغرض الربح فهذا تجارة، فيقوِّم ما عنده ءاخر الحول فما بلغ قيمته بأحد النقدين نصابأ أخرج زكاة التجارة، ومذهب الحنفية أن الفلوس إن كانت أثماناً رائجة أو سلعأ للتجارة ففيها زكاة كذا في الشَّرَنبلالِيّة (1) وفي الفتاوى الهندية (2) وأما الفلوس فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، وإن كانت للتجارة فإن بلغت مائتين وجبت الزكاة كذا في المحيط.
 
أما غير الحنفية فقد قال المالكية كما في الشرح الكبير على مختصر خليل (3) ما نصّه (وأشعر اقتصاره على الورِقِ (أي الفضة) والذهب أنه لا زكاة في الفلوس النحاس وهو المذهب).
 
وفي كتاب فتح العليّ المالك (4) على مذهب الإمام مالك ما نصه (ما قولكم في الكاغَد الذي فيه خَتم السلطان ويتعامل به كالدراهم والدنانير هل يزكى زكاة العين أو العَرَض أو لا زكاة فيها؟ فأجبت بما نصّه الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمّد رسول الله، لا زكاة فيها لانحصارها (5) في النَّعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار والذهب والفضة، ومنها قيمة عَرْض المُدير وثمن عرض المحتكر، والمذكور ليس داخلاً في شىء منها، ويقرَّبُ لك ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان والمتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك، قال في المدونَة ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة عليه فيها إلا أن يكون مديراً فيقوّمها كالعروض). انتهى
 
وفي الطراز بعد أن ذكر عن أبي حنيفة والشافعي وجوب الزكاة في عينها واتفاقهما على تعلقها بقيمتها وعن الشافعي قولين في إخراج عينها قال والمذهب أنها لا تجب في عينها إذ لا خلاف أنه لا يعتبر وزنها ولا عددها وإنما المعتبر قيمتها، فلو وجبت في عينها لاعْتُبِرَ النصاب من عينها ومبلغها لا من قيمتها، كما في عين الوَرِقِ والذهب والحبوب والثمار، فلما انقطع تعلّقها بعينها جرت على حكـم جنسها من النحاس والحديد وشبهه، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وءاله وسلم) عبارة فتح العليّ المالك.
 
ومذهب الحنابلة كذلك، ففي شرح المنتهى (6) (الفلوس ولو رائجة عروض، والعُروض تجب الزكاة في قيمتها إذا بلغت نصاباً إذا ملكت بنيّة التجارة مع الاستصحاب إلى تمام الحول، أما لو ملكها لا بنيّة التجارة ثم نواها فلا تصير لها).
 
ومذاهب الشافعية كمذهب الحنابلة والمالكية أنه لا تجب الزكاة في عين العملة الورقية، نصّ على ذلك الشيخ محمد الأنبابيّ الذي كان يسمى الشافعي الصغير نقل ذلك عنه صاحب كتاب موهبة ذي الفضل، وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري تولى مشيخة الأزهر مرتين.
 
(1) ردّ المحتار على الدّر المختار (2 – 32).
(2) الفتاوى الهندية (1 – 179).
(3) انظر هامش حاشية الدسوقي (1 – 418).
(4) فتح العليّ المالك على مذهب الإمام مالك (1 – 164).
(5) أي لانحصار الزكاة.
(6) شرح منتهى الإرادات (1 – 401).