إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
العَقلُ لهُ اعتِبَارٌ ليسَ كمَا يَظُنُّ بَعضُ النّاس أنّ العَقلَ لَيسَ لهُ اعتِبَارٌ، هذا جَهلٌ بالقُرءان وجَهلٌ بالحديث، الرّسولُ عليه السّلام قَرَأ (إنّ في خَلقِ السّمواتِ والأرض واختِلافِ اللّيلِ والنّهار لآياتٍ لأُولِي الألباب الذينَ يَذكرُونَ اللهَ قِيامًا وقُعُودًا وعلى جنُوبِهم ويتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمواتِ والأرض) ثمّ قال (وَيلٌ لِمَنْ يَقرؤها ولا يَتَفكَّرُ فيها) رواه الدّيلمي، مَعناهُ واجِبٌ على العبادِ أنْ يتَفَكّروا فيمَا خَلقَ اللّهُ حتّى يَعرِفُوا يَقِينًا أنَّ هَذه الأشياءَ كُلَّها لها خَالِقٌ أَوجَدَها، مَا وُجِدَت مِن دُونِ مُوجِد، مَا وُجِدَت بلا مُوجِدٍ، بل وُجِدَت بموجِد لا يُشبِهُها، هَذا مَا كانَ علَيهِ السَّلَفُ والخَلَفُ.
الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِى سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) نَتِيجَةُ التَّفَكُّرِ هُوَ الْعِلْمُ بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ لِأَنَّ الَّذِى يَنْظُرُ فِى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ يَقُولُ لا بُدَّ مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ لا يَقْبَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِى نُشَاهِدُهَا وَالَّتِى لا نُشَاهِدُهَا دَخَلَتْ فِى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ أَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
قولُ الله تَعالى (الذينَ يَذكُرونَ اللهَ قِيامًا وقُعُودًا وعلى جنُوبِهم) قال بَعضُهم يَذكرُونَ اللهَ أي يُصَلّون قيامًا، وقُعُودًا إن عَجَزُوا عن القِيام إن كانَت الصّلاةُ فَرضًا،أمّا إنْ كانَت نَفلا، لو كانُوا قَادِرينَ على القيام فصَلَّوا قاعِدِينَ لهم ثواب، وعلى جنُوبهِم أي إن عجَز عن الصَّلاةِ جَالسًا صلَّى على جَنبِه، كلُّ هؤلاءِ لهم عُذرٌ عندَ الله، لهم خَيرٌ عندَ الله.
التّفَكُّر فَرضٌ، سيّدُنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قَرأ هذه الآيةَ التي في سورة آل عِمران: (إنّ في خلْق السّماواتِ والأرضِ واختِلافِ اللّيلِ والنَّهارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبابِ الذينَ يَذكُرونَ اللهَ قِيامًا وقعُودًا وعلى جنُوبِهم ويتَفَكّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ والأرض ربَّنَا ما خَلَقْتَ هذا باطلا) ثم قال بعدَما قرأ الآيةَ (وَيْلٌ لمن قرَأَها ولم يتَفكَّرْ فيها) رواه ابن حبان، فمِن هنا نَعلَم أنّ على الإنسانَ أن يتَفكّر أي يَنظُر في أحوالِ العالَم في حالِ نَفسِه وفي حَالِ هذا الجوّ حتّى يَزدَادَ يَقينًا بوجُودِ الله الذي خَلَقَ هَذه الأشيَاءَ كُلَّها، لأنَّ الإنسَانَ إذَا فَكّرَ في أَمرِ نَفسِه في حالِ نَفسِه يَعرفُ أنّه وُجِدَ بَعدَ أن لم يكن مَوجُودًا، يَعلَمُ أنّه لم يَخلُق نَفسَه كذلكَ حالُ الأبِ كذلك حالُ الأمّ كذلك حالُ الجدِّ كذلك مَن فَوقهُم كُلّ هؤلاء يَعلَمُون أنهم ما خلَقوا أنفُسَهُم، ومما قَالَهُ بَعضُ الشُّعَراءِ في الاستِدلالِ على وجُودِ اللهِ مَا قَالَهُ أبو العتَاهِيَة وهوَ مِنَ المتقَدّمِينَ:
أَلا إنّنَا كُلَّنا بَائِدٌ *** وأَيُّ بَني ءادَمٍ خَالِدُ
فَيَا عَجَبًا كَيفَ يُعصَى الإلهُ *** وأَمْ كَيفَ يَجحَدُه الجَاحِدُ
وَفي كُلِّ تَحرِيكَةٌ ءايَةٌ *** وفي كُلِّ تَسكِينَةٍ شَاهِدُ
وفي كُلِّ شَىءٍ لهُ ءايَةٌ *** تَدُلُّ على أنَّهُ واحِدُ
وقولُ أبي نُواسٍ:
تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الأرضِ وانْظُرْ *** إلى ءاثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ *** وأَحْدَاقٌ لها ذَهَبٌ سَبِيكُ
على قُضُبِ الزَّبَرجَدِ شَاهِدَاتٌ *** بأنّ اللهَ لَيسَ لهُ شَرِيكُ
يعني النَّرجِسَ، شَبَّهَ أبو نُوَاس النَّرجِسَ بأَورَاقِه البِيْض الْمُستَدِيرَةِ ومَا في وَسَطِه مِنَ الكُرَاتِ الذَّهَبِيَّةِ التي تُشْبِهُ عُيُونًا مِن ذَهَبٍ يُحِيطُ بها إطَارٌ مِن فِضّةٍ على قَوائِمَ خُضْرٍ مِثلِ الزَّبَرجَد، لأنّ الزَّبَرجَدَ لَونُه أخضر، أبو نُوَاس يَصِفُ زَهرَةَ النَّرجِس ذاتِ الأوراقِ البَيضَاء التي تَتوسَّطُها حِلَقٌ صَفرَاء فأَورَاقُها البَيضَاءُ شَبَّهَها بالفِضَّةِ وجَوفُها الأصفَرُ شَبّهَه بالذَّهَب وعُرُوقُها الخَضرَاءُ شَبَّهَها بالزّبَرجَد.
فإن قِيلَ لم يُنقَلْ أنّه صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم عَلَّمَ أحَدًا مِن أصْحَابِه هَذا العِلمَ، ولا عن أحَدٍ مِن أصحَابِه أنّه تَعلَّمَ أو عَلَّمَ غَيرَه، وإنّما حَدَث هَذا العِلمُ بَعدَ انقِرَاضِهِم بزَمَان، فلَو كانَ هَذا العِلمُ مُهِمًّا في الدّينِ لَكَانَ أَوْلَى بهِ الصّحَابَةُ والتّابِعُونَ.
قُلنَا إنْ عُني بهِ أنّهم لم يَعلَمُوا ذاتَ اللهِ وصِفاتِه وتَوحِيدَه وتَنزِيهَه وحَقّيّةَ رَسُولِه وصِحّةَ مُعجِزَاتِه بدِلالَةِ العَقلِ فأَقَّرُّوا بذَلكَ تَقليدًا، فهوَ بَعِيدٌ مِنَ القَولِ شَنِيعٌ مِنَ الكَلام، وقَد رَدَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في كِتَابِه على مَن قَلَّدَ ءابَاءَه في عِبَادَةِ الأصنَامِ بقَولِه (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (سورة الزخرف 23) أيْ على دِيْن (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (سورة الزخرف 23)، وقَدْ حَاجَّ النّبيُّ صَلّى اللهُ علَيه وسَلَّم كَثِيرًا مِنَ المشركِينَ واليَهُودِ والنّصَارَى وذلكَ مما لا يَخفَى.
وإنْ أُرِيدَ بهِ أَنَّهم لم يتَلَفَّظُوا بهذه العِبَاراتِ المصطلَحَةِ عندَ أهلِ هَذه الصّنَاعَةِ نَحوِ الجَوهَرِ والعَرَض والجَائزِ والْمُحَالِ والحَدَثِ والقِدَم، فهَذا مُسَلَّمٌ، ولكِنَّا نُعَارِضُ بمثْلِه في سَائِر العُلُوم، فإنّهُ لم يُنقَل عن النّبيّ صَلّى اللهُ علَيه وسلّم ولا عن أصحَابِه التَّلَفُّظُ بالنّاسِخ والمنسُوخ (أيْ على وَجْه التّوَسُّع الذي ذَكَرَه أهلُ التّفسِير)، والْمُجمَلِ والْمُتَشابهِ وغَيرِه كمَا هوَ مُستَعمَلٌ عندَ أهلِ التّفسِيرِ، ولا بالقِيَاسِ والاستِحْسَانِ، والمعَارَضَةِ والْمُنَاقضَةِ والعِلَّةِ وغَيرِها كمَا هوَ المستَعمَلُ عندَ الفُقَهاءِ، ولا بالجَرْح والتَّعدِيل، والآحَادِ والمشهُورِ والمتَواتِر والصَّحِيح والغَرِيب وغَيرِ ذلكَ كمَا هوَ المستَعمَلُ عندَ أهلِ الحَدِيث، فهَل لقَائلٍ أنْ يَقُولَ يجبُ رَفضُ هَذه العلُوم لهذه العِلَّةِ.
فَلا يَجُوزُ أنْ يُقَالَ هَذهِ العُلُومُ تُرفَضُ ولا يُشتَغَلُ بها لأنَّ الصّحَابةَ مَا كانُوا يتَكَلَّمُونَ بهذِه العِبَاراتِ، على أنَّه في عَصْرِ النّبيّ صَلّى اللهُ علَيه وسلَّم لم تَظهَرِ الأهواءُ والبِدَعُ فلَم تمَسَّ الحَاجَةُ إلى هَذا النّوع مِنَ العِلم، ليسَ المرادُ أَصْلَ العِلم فأَصْلُ هَذا العِلم كان موجودًا في الصّحَابةِ متَوفّرًا بَينَهُم أكثرَ ممنْ جَاءَ بَعدَهُم والكَلامُ فيهِ بالرّدّ على أهلِ البِدَع بدَأ في عَصْر الصّحَابَةِ، وقَد ردَّ ابنُ عَبّاسٍ وابنُ عُمَرَ على المعتِزَلَةِ، ومِن التّابعِينَ رَدّ علَيهم عمرُ بنُ عبدِ العَزيز والحسَنُ بنُ محمَّدِ بنِ الحنَفِيّة، وقَدْ نَشَأت بَعدَهم إلى عَصرِنا فَاحْتِيْجَ إلى هَذه الاصطِلاحاتِ ردًّا علَيهِم ودَفعًا لِشُبهَتِهِم.
ومَوضُوعُ هَذا العِلمِ عِلمِ التّوحِيد النّظَر في الخَلْقِ لِمَعرِفَةِ الخَالِق (أي الاستِدلالُ بخَلق اللهِ تَعالى لإثباتِ وجُودِه وصِفَاتِه الكمَاليَّة) وهَذا العِلمُ مِن أسمائه أصُولُ الدّين وهوَ مُرَكَّبٌ إضَافيُّ جُعِل عَلَمًا لعِلْمٍ مخصُوص وقيل في تَعرِيفِه إنّهُ عِلمٌ يُتَكَلَّمُ فيه عن أسماءِ اللهِ تَعالى وصِفَاتِه وأفعَالِه وأحوالِ المخلُوقِينَ مِنَ الملائكَةِ والأنبياءِ والأولياء والأئمّةِ والْمَبدَأ والْمَعَاد، على قَانُونِ الإسلام لا على أُصُولِ الفَلاسِفَة، فَإنهم أي الفَلاسِفَةَ لهم كلامٌ في ذلكَ يُعرَف عندَهُم بالإلهيّات تَكَلَّمُوا في حَقّ اللهِ وفي حَقّ الملائكَةِ وغَيرِ ذلكَ اعتِمَادًا بزَعمِهم على مجَرّدِ النّظَرِ والعَقْل، فجَعَلُوا العَقلَ أَصلًا للدّين فلا يتَقَيَّدُونَ بالتّوفِيقِ بَينَ النّظَرِ العَقلِيّ وبَينَ مَا جَاءَ عن الأنبِيَاء.
ولَيسَ ذَلكَ مُرَادُ عُلَماءِ التَّوحِيدِ إنّما مُرَادُهم مَا ذُكِرَ هُنا لأنّه لا يُتَكَلَّمُ في حَقّ اللهِ وفي حَقّ الملائكةِ وغَيرِ ذلكَ اعتِمَادًا على مُجرّدِ النَّظَر والعَقْل، وأمَّا عُلَماءُ التَّوحِيدِ فيَتكَلَّمُونَ في ذلكَ مِن بابِ الاستِشْهَادِ بالعَقْل على صِحَّةِ مَا جَاءَ عن رسولِ اللهِ، فعِندَهُم العَقلُ شَاهِدٌ للشَّرْع شَاهدٌ للدِّين ليسَ أصلًا للدِّين، أمّا أولئكَ جَعَلُوهُ أَصلًا مِنْ غَيرِ التِفَاتٍ إلى مَا جَاءَ عن الأنبيَاء. الفَلاسِفَةُ القُدَمَاءُ لا يَلتَفِتُونَ إلى مَا جَاءَ عن الأنبِياءِ لا يتَقَيَّدُونَ بالتَّوفِيقِ بَينَ النّظَر العَقليّ وبينَ ما جَاءَ عن الأنبياءِ، هَذا مَذمُومٌ، لا يَأتي الشّرعُ بما تُكَذّبُه العُقُولُ الصّحِيحَةُ أليسَ الشَّرْعُ أَمَر بالنّظَر والتَّفَكُّر؟ والنَّظَرُ والتّفَكُّر بالعَقلِ فكيفَ يكونُ مُعَارضًا للشَّرْع. الحَشَوِيَّةُ لا يَفهَمُونَ هذا المعنى لا يَستَعمِلُونَ العَقلَ ولذَلكَ اعتَقَدُوا في اللهِ مَا لا يَجُوز على الله، أَثْبَتُوا لهُ المكانَ والأعضَاءَ والهيئةَ والشَّكْلَ واللّون، الوهّابيّةُ منهُم لذلكَ ابنُ تَيمِيَةَ يَنقُل كَلامَ مَن يَقُولُ مِنَ الحَشَويّةِ لا تَصِحُّ الحَياةُ بدُونِ حَركَةٍ فجَعَلُوا للهِ حَركَةً جعَلُوا هَذا قَاعِدَةً، هؤلاء يَبنُونَ أُمُورَهُم على التَّوَهُّم النّاشِئ عن المحسُوسَاتِ، لَمّا وَجَدُوا أنّ كُلَّ ذِي حيَاةٍ رُوحِيّةٍ لا يَخلُو مِنَ الحَركةِ قَاسُوا اللهَ تَعالى على ذلكَ فقَالُوا بأنّ اللهَ مُتَحرّكٌ، ولم يَدْرُوا أنَّ حَياةَ اللهِ غَيرُ حيَاةِ خَلْقِه، ولم يَدرُوا أنّ إثْباتَ أُلُوهِيّةِ اللهِ لا يَصِحُّ معَ التَّشبِيهِ بشَىءٍ مِنْ خَلقِه كالحركةِ أو السُّكُون أو اللَّون أو الأعضَاء أو الشّكْل أو المِساحَةِ والمقدَار ونحوِ ذلكَ مِن كُلّ مَا يَستَلزِم الحُدُوثَ، أمّا أَهلُ السُّنَّة فقَد وَفَّقُوا بَينَ العَقلِ والنَّقْل أي مَا جَاءَ عن الرّسُول، وفَّقُوا بَينَ هَذا وهَذَا لأنَّ اللهَ جَعَلَ العَقلَ شَاهِدًا فكَيفَ يُلْغَى، الحَشَويّةُ أَلْغَوهُ أَلغَوا هَذا الشّاهِدَ الذي أمَرَ الشَّرعُ بهِ فمِنْ هُنَا ضَلُّوا.