إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
القول السالك في ما ذهب إليه العلماء من غسل المرفقين على مذهب مالك
من فرائض الوضوء غسل اليدين اتفاقا مع المرفقين على المشهور، فَيَجِبُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ زَائِدَةً الْتَبَسَتْ بِالأَصْلِيَّةِ (كِلْتَاهُمَا نَبَتَتْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَالْتَبَسَتَا فَلَمْ تُعْرَفِ الْزَائِدَةُ مِنَ الأَصْلِيَّةِ فَيَغْسِلُ كِلَيْهِمَا) مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَيُقَالُ الْمَرْفِقَيْنِ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَظْمَيِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ (سُورَةَ الْمَائِدَة 6) أَيْ مَعَ الْمَرَافِقِ. فَإِذَا تُرِكَ الْمِرْفَقَانِ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ مِرْفَقَيْهِ وَلا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وقيل لا يجب غسل المرفقين فلَوْ تَرَكَ غَسْلَ الْمِرْفَقِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَدَلِيلُهُمْ ظَاهِرُ الآيَةِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ الْمَرَافِقُ مَا دَخَلَتْ لِأَنَّ الأَصَحَّ فِي إِلَى عَدَمُ إِدْخَالِ الْغَايَةِ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ [رَجَزٌ]
وَفِي دُخُولِ الْغَايَةِ الأَصَحُ لا *** تَدْخُلُ مَعْ إِلَى وَحَتَّى دَخَلا
مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ عُلَمَاءَ النَّحْوِ اخْتَلَفُوا هَلْ تَدْخُلُ الْغَايَةُ أَيْ مَا بَعْدَ حُرُوفِ الْغَايَةِ كَإِلَى وَحَتَّى مَعَ مَا قَبْلَهَا أَمْ لا تَدْخُلُ فَالأَصَحُّ أَنَّ مَا بَعْدَ إِلَى لا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا وَهُنَاكَ قَوْلٌ ءَاخَرُ بِدُخُولِ الْغَايَةِ مَعَ إِلَى أَيْ مَعَ مَا قَبْلَهَا، أَمَّا فِي حَتَّى فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذَا قُلْتَ أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا فَالرَّأْسُ دَاخِلٌ فِي الْمَأْكُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ شَخْصٌ ذَهَبْتُ مِنْ هُنَا إِلَى الْبَيْتِ فَالِاحْتِمَالُ الأَقْوَى أَنْ لا يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الأَضْعَفُ أَمَّا لَوْ قَالَ ذَهَبْتُ حَتَّى الْبَيْتَ فَمَعْنَاهُ دَخَلَهُ.
قال الإمام الكبير أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي (المتوفى 536 هـ) في شرح التلقين، كتاب الطهارة، والجواب عن السؤال الأول أن يقال في إيجاب غسل المرفقين خلاف، فوجه إثباته أن أبا هريرة توضأ وأدار الماء عليهما، ثم قال عند كمال وضوئه هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه عليه السلام قال (تأتونني يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) وهذا من مليح استعارته صلى الله عليه وسلم وبليغ اختصاراته لأن الغرة في الوجه والرأس والتحجيل في اليدين والرجلين وهو لون يخالف لون الفرس فاستوفى صلى الله عليه وسلم الأربعة الأعضاء المذكررة في القرآن التي هي جملة الوضوء المفروض بذكره الغرة والتحجيل، وأشار إلى النور المخلوق في هذه الأعضاء المخصوصة بالتطهير وأنها تتميز عن بقية البدن بذلك تشريفًا لها وفي أمره بإطالة الغرة ما يقتضي الأمر بدخول المرفقين في الغسل ووجه نفيه أنه سبحانه قال (وأيديكم إلى المرافق) وأصل إلى في اللغة الغاية وإذا كانت المرفقان غاية الذراعين لم يكونا منه لأنهما لو كانا منه لكانت الغاية غيرهما وهذا خلاف الظاهر (1) وقد قال بعض من نفى الوجوب أن إدخال المرفقين في الغسل مستحب.
(1) الظواهر في – و-.