إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال الله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (سورة فصلت 53).
 
اللهُ أَمرَنا بالتَّفَكُّر في مَصنُوعَاتِه، وأمَر عِبادَه أن يتَفكَّرُوا في حَالِ أنَفُسِهم وفي حَالِ هَذِه الأرضِ التي يَعِيشُون علَيها وفي حَالِ العَالَم العُلويّ السّماءِ والنّجومِ فإنّ في التّفكّرِ زِيادةَ اليَقِينِ بكَمَالِ قُدرةِ اللهِ وفي ذلكَ تَقويةَ الإيمانِ، وفي ذلكَ محبَّةَ اللهِ وغَيرَ ذلكَ منَ الفَوائد.
 
التّفكُّر يَزيدُ مِنْ خَشيَةِ اللهِ، والتّفكُّر الذي يحبُّهُ الله هو التّفَكُّر في مَصنُوعَاتِ الله، لِيَنظُرْ في حالِ نَفسِه يقولُ أنَا كنتُ نُطفَةً ثم اللهُ تَعالى خلَقَني إنسانًا بشَرًا سَويًّا، ثم طَوّرني مِنْ حَالةِ الضّعفِ إلى حَالةِ القُوّة، أليسَ الإنسانُ أوّلَ ما يُولَدُ لا يتَكلَّمُ ولا يَعلَمُ شَيئًا ولا يمشِي ولا يميّزُ مَا يَنفَعُه مما يَضُرُّه، ثم اللهُ تَعالى يُطوّرُه منَ الضّعفِ إلى القُوّةِ بَعدَ أنْ كانَ ضَعِيفًا، اللهُ تعالى يَخلقُ فيهِ القُوّةَ والنّشاطَ ثم هذا النّشَاطُ إنِ استَعمَلَهُ في الخيرِ فِيما يَنفَعُه لما بعدَ الموتِ في القَبر وفي الآخِرةِ كانَ حَازِمًا في أَمرِه، ولْيَتفَكّرِ الإنسَانُ في حَواسّهِ الخَمسِ الظّاهِرَةِ وهيَ السّمْعُ والبَصَرُ الشّمُّ والذَّوقُ واللَّمْسُ.
لِيَتفَكَّرْ في حَالِ نَفْسِه ومَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِن نُطْقٍ بحُرُوفٍ وأَصْوَاتٍ ولُغَاتٍ ولِسَانٍ وشَفتَين وأضْرَاسٍ وأَسْنَانٍ وكيفَ يَدخُلُ الطّعَامُ والشَّرَابُ مِن مَدخَلٍ واحِدٍ ويَخرُجَانِ مِن مَخرَجَينِ مُختَلِفَينِ بأوصَافٍ مُختَلِفَة وقَلبٍ يَنبُضُ وعُرُوقٍ يَجري فيها الدَّمُ وكَبدٍ وكُلَى وطِحَالٍ ومَرَارَةٍ ومَعِدَةٍ وأمعَاءٍ ودِمَاغٍ وأعصَابٍ وإحسَاسٍ وشُعُورٍ بالفَرَح والحُزْن وحَرارةٍ وبرُودَةٍ ورُطُوبَةٍ ويُبُوسَةٍ وأخْلاطٍ مُختَلِفَةٍ وتَغَيُّرِ أحْوالٍ وألوَانٍ وأَشكَالٍ وأحْجَام.
ولِيَتفَكَّرْ فِيمَا خَلَقَ اللهُ مِن طُيُورٍ بأَشْكَالٍ وأَلوانٍ وأَحْجَامٍ وأَصْواتٍ مُختَلفَةٍ وكَيفَ تَطِيرُ في الهواءِ وتُسافِرُ طَويلا مِنْ بلَدٍ إلى ءاخَرَ وتَهتَدي إلى طَريقِها وتَهبِطُ سَلِيمَةً، وكيفَ خَلَقَ نَحْلًا يَطِيرُ في الجِبال والوِديَانِ والسُّهُولِ ويَأكُل مِنَ الأزهَار يَخرُجُ مِن بطُونِهِا شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُه فيهِ شِفَاءٌ للنَّاس.
 
ولْيَتفَكَّرْ فِيمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ الأنعَامِ والخيُولِ وتَسخِيرِها لنَا ومَا خَلَقَ مِنَ السِّبَاع وجَوارِح الطَّير وحَشَراتِ الأرضِ وهَوامّها وما خَلَق مِنَ البِحَارَ والأنهار ومَا خَلَق فيها مِنَ الأسماكِ بأَشكَالٍ وأَحجَامٍ وأَلْوانٍ مختَلِفَة وكيفَ تُسَافِرُ في البِحَارِ ومَا خَلَقَ في الأرضِ مِن نَباتَاتٍ وخُضَارٍ وفَواكِهَ بأَلوانٍ وأَشْكَالٍ وطُعُومٍ مُختَلِفَةٍ، ولْيتَفَكَّرْ في السّماءِ ونُجُومِها المضِيئَةِ والكواكبِ السّيّارَةِ فيها بانتِظَام وسَيرِ الشَّمسِ والقَمَر وما فِيهِما مِن مَنافِعَ للعِبَاد.
التّفَكُّر في مخلُوقاتِ اللهِ فَرضٌ واجِبٌ في العُمر مَرّة، اللهُ تبَارك وتعالى في القرآنِ الكريم أرشَدَنا إلى الاستِدلالِ بمَصنُوعاتِه ومخلوقَاتِه على وجُودِه وقُدرتِه وعِلمِه وحِكمَتِه فقال (أَوَلَم يَنظُروا في ملكُوتِ السّماواتِ والأرض) معناهُ لماذا لا يَستَدِلُّون على حَقِّيّةِ الإسلام بالتّفكُّرِ في مَلَكُوتِ (1) السّماواتِ والأرضِ مَعناهُ كلُّ ما خَلَق اللهُ دليلٌ على وجُودِ اللهِ وعِلمِه وحِكمَتِه وقُدرَتِه وإرادَتِه لأنّهُ لَولا وجُودُ مَوجُودٍ حَيٍّ قادِرٍ عَالمٍ مُريدٍ أي ذِي مَشِيئةٍ ما صَحَّ عقلاً وجُودُ هذا العالَم، مَعنَاه ما يُفكّرون، تَوبيخٌ للكُفّار لعدَم تفَكُّرهم في ملَكُوت السّماوات والأرض يرَون بأعيُنِهم وَلاَ يتفَكّرُون بل وقَفُوا عندَ ما يجِدُونَه مِن أجدادِهم مِن عبادَة الأوثان، ذمَّهُم اللهُ لأنّهم لم يتفَكّروا، مَعنَاهُ تَفَكَّرُوا يا عِبَادِي حتى تَعرِفُوا أنّ لَكُم خَالقًا خَلَقَكُم على مَقَادِيرَ مُختَلِفَة وأحوالٍ مُختَلِفَة.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىءٍ) في هذه الآيةِ الأَمرُ بالاستِدلالِ العَقلِيّ عَلى وُجُودِ اللهِ تَبارك وتعالى لذلكَ قَالَ عُلَماءُ أهلِ السُّنّةِ تَجِبُ مَعرفَةُ الدّليلِ العَقلِيّ على كُلّ مُكَلَّفٍ فمَنْ لم يَعرفْ دَليلاً عَقليًا وجَزَم بالعَقِيدَةِ الحَقّةِ صَحَّ إسلامُه لكنّهُ عَاصٍ بتَركِ الاستِدلالِ، وقَد احتَجَّ إبراهيمُ خَلِيلُ اللهِ علَيهِ وعلى نبِيّنا الصلاةُ والسّلام على إثباتِ وجُودِ اللهِ وتَنزِيهِه عن الحَدّ والهيئَةِ حِينَ استَدلَّ على بُطلَانِ دِينِ قَومِه عِبادَة الكوكَب والقَمر والشَّمس بأنَّ هؤلاء الثّلاثةَ يتَحَوَّلُونَ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ دَلَّ ذلكَ على أنّ اللهَ تَباركَ وتَعالى ليسَ حَجمًا لأنَّ الحَجْم يَقُومُ بهِ دَليلُ الحُدوثِ أيْ دَليلُ أنّهُ مَخلُوقٌ حَدَثَ بَعدَ أنْ كانَ مَعدُومًا، فيجِبُ تَنزِيهُ اللهِ تَباركَ وتَعالى عن الحَدّ أي الحَجْم لأنَّ الحَجْمَ لا بُدَّ لهُ مِن حَدّ ولا بُدَّ لهُ مِن تغَيُّرِ الصّفَاتِ والانتقَالِ مِن صِفةٍ إلى صِفَةٍ واللهُ تَبارك وتعالى مَدَح حُجَّةَ إبراهيمَ هَذه على قَومِه بقَولِه تَعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) 83 الأنعام، وَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الأُلُوهِيَّةِ لِلْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِكَوْنِ الثَّلاثَةِ جِسْمًا يَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالتَّحَوُّلُ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ جِسْمًا وَلا يَكُونُ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْجِسْمِ كَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَتَحَوُّلِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَيَّدَ هَذَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنَ اسْتِدْلالِهِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى نُمْرُودَ فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) (سُورَةَ الْبَقَرَة 258).
 
(1) المَلَكُوتُ هوَ الْمُلْكُ.