إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قَالَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُوْرٍ الْمَاتُرِيْدِيُّ (ت 333هـ) فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ مَا نَصُّهُ (الله سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا مَكَانَ، وَجَائِزٌ ارْتِفَاع الْأَمْكِنَةِ وَبَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَكَانَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْآنَ، جَلَّ عَن التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ وَالاسْتِحَالَةِ (أَيِ التَّحَوُّلِ) وَالبُطْلَانِ، إِذْ ذَلِك أَمَارَاتُ الْحَدَثِ الَّتِي بِهَا عُرِفَ حَدَثُ الْعَالَم وَدِلَالَةُ احْتِمَالِ الفَنَاءِ). اهـ
 
ونقول:
أَنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في تَنْزيهِهِ الآيةَ الجامِعةَ وهي قَولُهُ تَعالى (لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) فَكانَت هذِهِ الجُملَةُ تَجمَعُ مَعانيَ كَثيرَةً مِن التَّنْزيهِ التّامِّ، فإِنَّها تُفهِم أَنَّ اللهَ تَعالى لا يُشبِهُ شَيئًا ولا يُشبِهُهُ شَىءٌ لا في ذاتِهِ ولا صِفاتِهِ ولا فِعلِهِ، فَهو تَبارَكَ وتَعالى واحِدٌ في الذَّاتِ، أَزَليٌّ أَبَدِيٌّ، مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، انفَرَدَ بِالأَزَلِيَّةِ فلا أَزَلِيَّ سِواهُ، فَالزَّمانُ والمَكانُ حادِثانِ أي مخلوقان لم يَكونا في الأَزَلِ ثمّ وُجِدا.
أَوّلُ الحادِثاتِ على ما جاءَ في الأَحاديثِ الصَّحيحَةِ عَن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ هو الماءُ، ثمّ العَرشُ المجيدُ، ثمّ القَلَمُ الأَعلى ثمّ اللّوحُ المَحفوظُ، ولم يَكُنْ لِلماءِ أَصلُ خَلقٍ مِنهُ إِنّما اللهُ تَعالى أَوجَدَ الماءَ بِقُدرَتِهِ مِن غَيرِ مادَّةٍ سَبَقَتهُ، اللهُ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ الشّىءَ الأَوَّلَ مِن غَيرِ أَصلٍ يِسبِقُهُ.
 
واللهُ تَعالى خلقَ الإِنسانَ مِن تُرابِ هذِهِ الأَرضِ الّتي نَعيشُ عَلَيها مِن جَميعِ أَلوانِها، أَمَرَ اللهُ تَعالى بَعضَ مَلائِكَتِهِ أَن يَقبُضَ قبضَةً مِن جَميعِ أَنواعِ التُّرابِ، ثمّ رُفِعَت هذِهِ القبضَةُ إِلى الجَنَّةِ فَعُجِنَت بِماءِ الجَنَّةِ، فَصارَ ذلِكَ التُّرابُ طينًا، ثمّ صارَ يابِسًا صلصالًا كالفَخّارِ، ثمّ وَضَعَ اللهُ تَعالى فيهِ الرّوحَ الّتي خَلَقَها قَبلَ ذلِكَ فَصارَ إِنسانًا حَيًّا مُتَحَرِّكًا بِالإِرادَةِ والاختِيارِ، ومِن لُطفِ اللهِ تَعالى على ذلِكَ الأَوّلِ مِنَ البَشَرِ الّذي هو ءادَمُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ أَن أَفاضَ عَلَيهِ مَعرِفَةَ أَسماءِ كُلِّ شَىءٍ مِن غَيرِ دِراسَةٍ على أَحَدٍ مِن مَلائِكَةِ اللهِ، بَل أُفيضَ عَلَيهِ إِفاضَةً، فَكانَ مِن أَوّلِ نَشأَتِهِ مُتَكَلِّمًا، فَهذا مِن لُطفِ اللهِ عَلَيهِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِمُجَرّدِ ما دَخَلَ الرّوحُ في ذلِكَ الهَيكَلِ البَشَرِيِّ، فَتَكَلَّمَ مَعَ الملائِكَةِ الّذينَ كانوا قَد خُلِقوا قَبلَ ذلِكَ بِزَمَنٍ يَعلَمُهُ اللهُ.
 
فَالحاصِلُ أَنَّ الماءَ الّذي كُوِّنَ مِنهُ هذا العالَمُ على اختِلافِ أَنواعِهِ يَرجِعُ إِلى ذلِكَ الأَصلِ الواحِدِ وهو ذلِكَ الماءُ الّذي هو تَحتَ العَرشِ، ولم يَكُن قَبلَ ذلِكَ الماءِ شَىءٌ لا زَمانٌ ولا مَكانٌ.
 
فيجِبُ إذن الإِيمانُ أَنَّ مُبدِعَ هذا العالَمِ لا يُشبِهُهُ بِوجهِ مِنَ الوُجوهِ، فَهو مَوجودٌ لا كَالمَوجوداتِ، وقَولُنا (لا كالمَوجوداتِ) يُفهِمُ أَنّهُ تَعالى مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، مَوجودٌ بِلا خالِقٍ يَخلُقُهُ، لأَنّهُ لَم يَسبِقْهُ عَدَمٌ.
 
وهو تَبارَكَ وتَعالى أَيضًا مَوصوفٌ بِالقُدرَةِ والعِلمِ والإِرادَةِ لأَنَّ الإِبداعَ لا يَصِحُّ عَقلًا بِدونِ ذلِكَ، وهؤلاءِ الصِّفاتُ (العِلمُ والقُدرَةُ والإِرادَةُ) لا يَصِحُّ الاتِّصافُ بها عَقلًا إِلاّ لمَن هو مَوصوفٌ بِالحياةِ، لكِن حياتُهُ تَعالى لَيسَ كَحياةِ غَيرِهِ، حَياتُنا بِروحٍ ولحمٍ ودَمٍ، وأَمّا حَياةُ اللهِ تَعالى الّذي أَبدَعَ العالَمَ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ لَيسَت كَهذِهِ الحَياةِ إِنّما هي صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدَيَّةٌ لا تَتَطوّرُ ولا تَتَغَيَّرُ.
 
فائدة:
 
اللهُ أَكْبَرُ مَعْنَاهُ اللهُ أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ قَادِرٍ وَأَعْلَمُ مِن كُلِّ عَالِمٍ، كذلك معنى اللهُ أكبَر أنّ اللهَ تَعالى فَوقَ كُلّ شَىء بالقُدرَة والعظَمة، ليسَ مَعناه بالحَجْم.