إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
علمنا بأن الأحاديث الصحيحة بينت أن المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام هو مقام الشفاعة العظمى، ومع ذلك انبرى أناس ينكرون علينا هذا التفسير ويرموننا بالضلال فما فصل القول في الرد عليهم لردعهم وعدم استمالة العوام إليهم، وجزاكم الله خيرا؟
الجواب:
قال الله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) المقامُ المحمودُ في الآيةِ الشَرِيفَةِ فهو الشفاعةُ العُظْمَى كما صحَّ في الحديثِ مِن روايةِ البخاريِّ ومسلمٍ والتِرْمِذِيِّ وغيرِهم وما يُرْوَى عن مُـجاهِدٍ مِنْ أنَّهُ صلى الله عليه وسلمَ يَقْعُدُ على العرشِ لا يصِحُّ ومخالف لنصّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أنه الشفاعةُ، ويزعُمُه بعضُهم بزيادةِ لفظِ (معَ اللهِ)، فهٰذا باطلٌ جدًّا، قلتُ وهو رِوايَةُ ليثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ عنه، وفيه ضَعْفٌ لِنَقْصٍ في حِفْظِهِ، وَلَسنا مُكلَّفِينَ بقَبُولِها مِنْ أجلِ رجلٍ في الاحتجاجِ بهِ في أحاديثِ أحكامِ الفقهِ كلامٌ طويلٌ، فكيفَ بمِثْلِ هٰذا الأمرِ العظيمِ، وقدْ رَوَى مَنْ هو أضبَطُ مِنْهُ عن مُجاهِدٍ وهو ابنُ أبي نَجِيْحٍ أنّ المقامَ المحمودَ هو الشفاعةُ العُظْمَى، قال الذهبي في سير أعلام النبلاءِ (6 – 126) قال علي (أما التَفْسِيرُ فهو فيهِ ثِقَةٌ يَعْلَمُهُ قَدْ قَفَزَ القَنْطَرَةَ واحْتَجَّ بهِ أَرْبابُ الصِّحَاحِ).
ففي مسائل الفقيه المالكي القاضي أبي الوليد ابن رشد الجد القرطبي (المتوفى 520 هـ) هل يجوز الدعاء بطلب شفاعة النبي عليه السلام؟ ومنها أنك سألت فيه هل يجوز أن يأنف مسلم أن يقول اللهم لا تخلني من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلني ممن ينال شفاعته، ولا يحرمها؟
الجواب عن ذلك أنه لا يحل لمسلم أن يأنف من ذلك، بل يجب عليه أن يضرع إلى الله عز وجل، في ذلك جاهدا لأن شفاعته صلى الله عليه وسلم تنال جميع أمته المحسنين والمذنبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتى في الآخرة) وأجمع أهل العلم على أن المقام المحمود الذي وعده الله به في كتابه هو شفاعته لأمته، فتنال شفاعته صلى الله عليه وسلم، المحسنين منهم في وضعين أحدهما الاراحة من الموقف، الثاني الزيادة في الكرامة، والترفيع في المنزلة والدرجة وأما المذنبون فمنهم من تناله شفاعته في التجاوز عن ذنوبه ومنهم من تناله شفاعته في إخراجه من النار فلا يحرم أحد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الكفار.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (11 – 426 – 427) قال ابن بطال أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) وغير ذلك من الآيات، وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) والجمهور على أن المراد به الشفاعة وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه، وقال الطبري (قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة). اهـ
وقال الحافظ ابن عبد البر(463) في التمهيد (19 – 63 – 64) على هذا أهل العلم في تأويل قول الله عز وجل (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) أنه الشفاعة، وقد روي عن مجاهد أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية، والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الذي يشفع فيه لأمته، وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك، فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة، ذكر ابن أبي شيبة عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى
وفِي شَرْح صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض (المتوفى 544 هـ) المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (وذكر مسلم من حديث جابر المقام المحمود أنه الذى يُخرِجُ الله به من يُخرجَ من النار، ومثله عن أبى هريرة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم، وقد روى فى الصحيح عن ابن عمر ما ظاهره أنها شفاعةُ المحشر، قال فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود وعن حذيفة وذكر المحشر وكون الناس فيه سكوت لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه، فينادى محمداً فيقول لبيك وسَعْديك والخير فى يديك .. إلى آخر كلامه، قال فذلك المقام المحمود، وعن كعب بن مالك يُحشر الناس على تلّ فيكسونى ربى حُلةً خضراء ثم نودى بى، فأقول ما شاء اللهُ أن أقول فذلك المقام المحمود، وعن عبد الله بن سلام محمد عليه السلام على كرسى الرب بين يدى الله عز وجل وقد روى عن مجاهد فى ذلك قولاً منكراً لا يصح……) إلى آخر كلامه.
وذكر الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه تحذير الخواص من أحاديث القصاص(مخطوط 15) وفي بعض المجاميع أن قاصا جلس ببغداد فروى في تفسير قوله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) أنه يجلسه معه على عرشه فبلغ ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري فاحتد من ذلك وبالغ في انكاره وكتب على باب داره:
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس
وفي ترجمة الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين (310 هـ) ذكر ياقوت الحموي (626 هـ) في كتابه معجم الأدباء (6 – 2450) أن الإمام الطبري قال وأما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس
وقال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه (ص – 68) روي عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود قال وعدني ربي بالقعود على العرش، قلت هذا حديث مكذوب لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حامد المجسم يجب الإيمان بما ورد من المماسة والقرب من الحق لنبيه في إقعاده على العرش، قال وقال ابن عمر (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى) قال ذكر الله الدنو منه حتى يمس بعضه، قلت وهذا كذب على ابن عمر، ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع). اهـ
قال ابن كثير في تاريخه (15 – 42) وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين طائفة من العامة اختلفوا في تفسير قوله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) فقالت الحنابلة يجلسه معه على العرش وقال الآخرون المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الأولون والآخرون). اهـ
وقال الكوثري في تكملته (ص – 105) (جزى اللهُ الواحديَّ خيرا حيث رد تلك الأخلوقة ردا مشبعا وكذا ابن المعلم القرشي) أقول ويكفي لعدم ثبوت صفة لله تعالى بهذه الرواية وأمثالها العمل بقاعدة لا تثبت الصفة لله إلا بكتاب ناطق أو خبر مقطوع بصحته كما نقل الإمام البيهقي في الأسماء والصفات (ص 317) عن الإمام الخطابي، فهذه القاعدة تريح من تكلف الجواب عن بعض ما يروى عن أفراد الصحابة والتابعين.
فضيحة:
ذكر الخلال في كتابه المسمى بالسنة (1 – 232) نقلا عن بعض المجسمة من رد حديث محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) قال يقعده على العرش فهو عندنا جهمي يهجر ونحذر عنه، ثم قال (1 – 238) نقلا عن بعض المجسمة ومن رد حديث مجاهد فقد دفع فضل رسول الله ومن رد فضيلة الرسول فهو عندنا كافر مرتد عن الإسلام، ثم قال والذي ندين الله عز وجل به حديث مجاهد يقعده على العرش فمن رد هذا فهو عندنا جهمي كافر. اهـ
وأما الذهبي فقد قال في كتابه العلو (1 – 170) فأما قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص، وقال أيضا (1 – 131) ويروى مرفوعا وهو باطل. اهـ
وأما الألباني الوهابي فقال في مقدمة مختصر العلو (ص – 17) في بيان أنه ثبت في الصحاح أن المقام المحمود هو الشفاعة العامة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، قلت وهذا هو الحق في تفسير المقام المحمود دون شك ولا ريب للأحاديث التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى وهو الذي صححه الإمام ابن جرير في تفسيره (15 – 99) ثم القرطبي (10 – 309) وهو الذي لم يذكر الحافظ ابن كثير غيره وساق الأحاديث المشار إليها، بل هو الثابت عند مجاهد نفسه من طريقين عنه عند ابن جرير، وذاك الأثر عنه ليس له طريق معتبر). اهـ
أقول فيا لها من فضيحة على المشبهة فقد رمى بعضهم البعض بما يرمون به غيرهم، بالكفر تارة، وبمذهب الجهمية تارة أخرى، قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).
فائدة:
(ليث بن أبي سليم) قال عبد الله بن أحمد عن أبيه مضطرب الحديث، وقال عثمان بن أبي شيبة سألت جريرا عن ليث ويزيد بن أبي زياد وعطاء ابن السائب فقال كان يزيد أحسنهم إستقامة ثم عطاء وكان ليث أكثر تخليطا، قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن هذا، فقال أقول كما قال، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري عن يحيى بن معين كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكذا قال عمرو بن علي وابن المثنى وعلي بن المديني وزاد عن يحيى مجالد أحب إلي من ليث وحجاج ابن أرطاة، وقال أبو المعتمر القطيعي كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم، وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي وابا زرعة يقولان ليث لا يشتغل به هو مضطرب الحديث، قال وقال أبو زرعة ليث بن أبي سليم لين الحديث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث، وقال الحاكم أبو عبد الله مجمع على سوء حفظه، وقال الجوزجاني يضعف حديثه.
راجع ترجمته في تهذيب التهذيب (8/465-468)، والجرح والتعديل (3/2/177-179)، وميزان الاعتدال (3/420-423)، وغيرهم.