إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَانَ هَمُّهُ إِرْضَاءَ رَبِّهِ بِتَبْلِيغِ تَشْرِيعِ مَوْلاهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَبْدِيلٍ وَلا تَقْصِيرٍ وَلا هَوَادَةٍ وَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ خَوْفٌ مِنَ النَّاسِ وَلا مِنْ وَقِيعَةٍ وَلا مِنِ اعْتِرَاضِ بَعْضٍ عَلَيْهِ وَفي هَذَا الْبَابِ قَالَ الْقَائِلُ:
 
إِنْ صَحَّ مِنْكَ الرِّضَا يَا مَنْ هُوَ الطَّلَبُ *** فَلا أُبَالي بِكُلِّ النَّاسِ إِنْ غَضِبُوا
 
لِذَلِكَ بَلَّغَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِجَوَازِ أَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ في الزِّوَاجِ بِيْنَ أَكثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ في ءانٍ وَاحِدٍ وَتَحْريْمَ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ إِظْهَارُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذي هُوَ تَشْريعٌ مِنَ اللهِ تعالى، وَفي ذَلِكَ دِلالَةٌ عَلَى صِدْقِهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم في دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَتْبَعُ الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لَمْ يَتَجَرَّأْ عَلَى أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ أَنَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَكِنَّهُ لا يُبَالِي إِلا بِتَنْفِيذِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، كَانَ هَمُّهُ أَنْ يُرْضِيَ رَبَّهُ لأَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُمْتَلِئًا بِشُهُودِ أَنَّهُ لا ضَارَّ وَلا نَافِعَ عَلَى الْحَقيقَةِ إِلا اللهُ، فَهَذَا هُوَ حَقيقَةُ مَعْنَى لا إِلَهَ إِلا اللهُ، لأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَحْتَوي عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لأَنَّ اللهَ اخْتَصَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ لأَنَّهُ لا خَالِقَ لِمَنْفَعَةٍ وَلا لِمَضَرَّةٍ في الظَّاهِرِ أَوْ في الْبَاطِنِ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعالى، قَالَ تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله)، مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا أَحَدَ سِوَى اللهِ يَخْلُقُ عَيْنًا مِنَ الأَعْيَانِ وَلا أَثَرًا مِنَ الآثَارِ إِلاّ اللهُ تعالى، يَشْمَلُ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ مِنْ لَذَّةٍ وَأَلَمٍ وَفَرَحٍ وَحَزَنٍ وَهَمٍّ وَغَمٍّ وَشِبَعٍ وَرِيٍّ وَجُوعٍ وَعَطَشٍ وَإِدْرَاكٍ وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ وَلَمْحَةٍ وَطَرْفَةٍ وَحَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ إِلا بِخَلْقِ اللهِ لا بِخَلْقِ أَحَدٍ غَيْرِهِ فَلا تَخْلُقُ الأَسْبَابُ عَلى اخْتِلافِ أَنْواعِهَا شَيْئًا مِنْ مُسَبَّبَاتِهَا، فَالنَّارُ لا تَخْلُقُ الإحْرَاقَ وَإِنَّمَا اللهُ يَخْلُقُ الإحْرَاقَ عِنْدَ مُمَاسَّةِ النَّارِ بِمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَهَذَا إِبْرَاهيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ رُمِيَ في تِلْكَ النَّارِ الْعَظِيمَةِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ، وَهَذَا الْحَيَوانُ الْمُسَمَّى سَمَنْدَل لا تُحْرِقُهُ النَّارُ حَتَّى شَعَرَهُ مَعَ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبُ جِسْمِهِ إِذْ هُوَ مِنْ جِسْمٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَهَذِهِ النَّعَامَةُ تَأكُلُ الجمْرَ الأَحْمَرَ وَتَسْتَمْرِئُ بِذَلِكَ أَيْ تَسْتَلِذُّ بِهِ، وَكَذِلَكَ مَشَايِخُ الرِّفَاعِيَّةِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَشَايِخِ الصَّادِقينَ دَخَلُوا أفْرَانًا حَامِيَةً فَلَمْ تُحْرِقْهُمْ وَلا ثِيَابَهُمْ، فَلَوْ كَانَتِ الْنَّارُ تَخْلُقِ الإحْرَاقَ لَمَا حَصَلَ هَذَا، وَكَذَلِكَ الأَكْلُ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالصِّحَةَ وَالْقُوَّةَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَنْ يَعِيشُوا بِلا أَكْلٍ وَشُرْبٍ أَيَّامًا، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَاشَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بِلا أَكْلٍ وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعينَ في أَيَّامِ الْحَجَّاجِ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ بَابَ بَيْتٍ لِيَمُوتَ فيهِ جُوعًا ثُمَّ أَمَرَ بِإخْرَاجِهِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَوَجَدَهُ صَحيحًا مُعَافَى فَأعْفَاهُ مِنَ الْقَتْلِ وَهَذَا الرَّجُلُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلينَ مِنْ رُواةِ الْحَديثِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي نُعُمٍ وَهُوَ الْقَائِل في قَوْلِهِ تعالى (وَأنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (سورة النجم 42) إِلَيْهِ يَنْتَهي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّرَ فَلا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْكَارُ الْعِبَادِ.
 
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتي اسْتُشْهِدَ زَوْجُهَا في الْقَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ في نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي خُرَاسَان وَاسْمُهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ عَاشَتْ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً لا تَأكُلُ شَيْئًا وَهِيَ بِصِحَّةٍ تَامَّةٍ تَمْشِي إِذَا مَشَتْ بِنَشَاطٍ بَعْدَ لُقْمَةٍ أَكَلَتْهَا في الْمَنَامِ مِنْ يَدِ زَوْجِهَا الشَّهِيدِ وَقَالَ لَهَا كُلِي فَلا تَجُوعِينَ بَعْدَ هَذَا أَبَدًا وَلا تَظْمَئينَ أبَدًا فَأصْبَحَتْ شَبْعَى رَيّا وِبَقِيَتْ بِلا أَكْلٍ وَلا شُرْبٍ حَتَّى مَاتَتْ، فَسُبْحَانَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.
 
وَاللهُ أَعْلَمُ وَأحْكَمُ.