إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الأَئِمَّةِ مِنْهُمُ الأَرْبَعَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَإِذَا أَصَابَتْ ثَوْبًا أَوْ بَدَنًا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلصَّلاةِ، وَقَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِطَهَارَتِهَا وَهُوَ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِلْمِ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ شَيْخُ الإِمَامِ مَالِكٍ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ وَلا فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَى نَجَاسَةِ الْخَمْرِ، إِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ الصَّرِيحُ بِتَحْرِيْمِ شُرْبِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ شُرْبِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا لِمَنْ يُرِيدُهَا لِلشُّرْبِ كَفَرَ.
وَأَمَّا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ طَارِقَ بنَ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ (إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شِفَاءٌ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ إِنَّمَا الْمَعْنَى لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ طَيِّبٍ بَلْ هِيَ دَوَاءٌ خَبِيثٌ فَهِيَ لِكَثْرَةِ مَضَارِّهَا كَأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ مِنَ الشِّفَاءِ، وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةِ وَالسَّلامُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شِفَاءٌ بِالْمَرَّةِ، لأِنَّ وُجُودَ الشِّفَاءِ بِهَا مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ شَىْءٌ مَحْسُوسٌ، فَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّاهِرِ غَلَطٌ كَبِيرٌ بَلِ الأَطِبَّاءُ الْقُدَمَاءُ وَالْمُحْدَثُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تَشْفِي مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ مَجَازُ الْحَذْفِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ أَيْ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ طَيِّبٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (سُورَةَ الْبَقَرَة 219) لَكِنَّ الَّذِينَ نَفَوْا وُجُودَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا قَالُوا كَانَ فِيهَا مَنَافِعُ ثُمَّ سُلِبَتْ مَنَافِعُهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْكِرَاتِ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيْمُهَا إِلاَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ النَّاسُ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ لِلتَّدَفُئِ، وَيَشْرَبُونَهَا فَيَصِيرُ عِنْدَهُمْ نَشَاطٌ بِلا مَعْصِيَةٍ ثُمَّ لَمَّا حُرِّمَتْ حُرِمُوا تِلْكَ الْمَنَافِعَ الَّتِي فِيهَا.
ففي أحكام القرآن للقاضي محمد بن عبد الله أبي بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي (المتوفى 543 هـ) سورة المائدة فيها أربع وثلاثون آية الآية الثانية والعشرون قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ) مسألة تحقيق اسم الخمر والأنصاب والأزلام:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي قَوْله تَعَالَى (رِجْسٌ) (المائدة 90) وَهُوَ النَّجَسُ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ إنَّهَا رِكْسٌ أَيْ نَجَسٌ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ) وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ، فَيَكُفُّ عَنْهَا، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَتِهِ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِهَا بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ الشَّرْطُ الأَوَّلُ أَنْ تَتَعَيَّنَ عِلاجًا دُونَ غَيْرِهَا وَإِلاَّ فَفِي غَيْرِهَا مَنْدُوحَةٌ أَيْ سَعَةٌ عَنْهَا، وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ بِحَيْثُ لا يُسْكِرُ وَلا يُذْهِبُ الْعَقْلَ لِئَلاَّ يَتَدَاوَى مِنْ شَىْءٍ فَيَقَعَ فِي أَشَدَّ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَصِفَهَا طَبِيبٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ لأِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (لا يَشْرَبُ الْخَمْرَ الشَّارِبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ بَلْ مَعْنَاهُ لا يَكُونُ إِيْمَانُهُ كَامِلاً.