إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وألِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ و الصالحينَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
أَجَابَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ اللَّهَ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَيْ أَزَلِيٌّ) وَلا أَزَلِيَّ سِوَاهُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِي الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، أَيْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
السَّائِلُ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ بَدْءِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ فَأَجَابَهُمْ وَأَفَادَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهَمَّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ.
فَقَوْلُهُ (كَانَ اللَّهُ) أَيْ فِي الأَزَلِ،
وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) أَيْ أَنَّهُ لا أَزَلِيَّ سِوَاهُ لِأَنَّهُ فِي الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا نُورٌ وَلا مَكَانٌ وَلا ظَلامٌ وَلا لَيْلٌ وَلا نَهَارٌ،
وَقَوْلُهُ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أَيْ وُجِدَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أي أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ ثُمَّ خُلِقَ الْعَرْشُ وَبِوُجُودِ الْمَاءِ وُجِدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ.
فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ هُمَا أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ، أَمَّا مِنْ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ فالزَّمَانُ والْمَكَانُ وُجِدَا بِوُجُودِ الْمَاءِ، وَالْعَرْشُ سَرِيرٌ كَبِيرٌ لَهُ أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ لَيْسَ كَسَرِيرِنَا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ.
فَالْمَاءُ أَصْلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، فَبِدَايَةُ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ، وَلا يُحِيلُ الْعَقْلُ وُجُودَ أَصْلِ الْعَالَمِ مِنَ الْعَدَمِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ، فَكَانَ الأُولَى فِي الْحَدِيثِ لِلأَزَلِيَّةِ أَمَّا كَانَ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فَهِيَ لِلْحُدُوثِ.
فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ، فَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ قَبْلَ كُلِّ الأَشْيَاءِ لا يُكَفَّرُ لَكِنَّهُ يُغَلَّطُ لِمُخَالَفَتِهِ ثَلاثَةَ أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ مِنْ نُورٍ لا يُكَفَّرُ، لَكِنْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ جَسَدَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ مِنْ نُورٍ فَهُوَ كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْءَانَ قَالَ تَعَالَى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/110].