إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ و آلِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ والصالحينَ.
الْمَوْلِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ داخِلاً في البِدَعِ الَّتي نَهَى عَنْها رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ (وكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ).
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ في أَلْفِيَّتِهِ (وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ) مَعْنَاهُ أَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْوَارِدُ الْوَارِدُ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ أَحْسَنَ تَفْسيرٍ مَا وَافَقَ السِّيَاقَ، وَسِيَاقُ الْحَديثِ ابْتَدَأهُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ) مَعْنَاهُ أَحْسَنُ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، (وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) مَعْنَاهُ أَحْسَنُ السِّيَرِ سِيرَةُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ (وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا) الْحَدِيثَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنَّ شَرَّ الأُمُورِ الْمُحْدَثَاتُ الَّتي خَالَفَتْ أَحْسَنَ الْحَديثِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ وَهِيَ بِدْعَةُ الضَّلالَة، فَلا دَخَلَ لِلْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ في ذَلِكَ الذَّمِّ الْمَذْكُورِ.
قالَ النَّوَوَيُّ في شَرحِ صَحيحِ مُسْلِمٍ (الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ في صَحيفَةِ مِائَةٍ وأَرْبَعَةٍ وخَمْسينَ) ما نَصُّهُ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) هَذا عامٌّ مَخْصُوصٌ (أي لَفْظُهُ عامٌّ وَمَعناهُ مَخْصوصٌ)، والْمُرادُ بِهِ غالِبُ البِدَعِ. وقالَ أيْضًا ولا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْحَديثِ عامًّا مَخْصُوصًا قَوْلُهُ (كُلُّ بِدْعَةٍ) مُؤَكِّدًا بِكُلُّ، بَلْ يَدْخُلُهُ التَّخْصيصُ مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء) سورة الأحقاف 25). اهـ
فَهَذِهِ الآيةُ لَفْظُها عامٌّ وَمَعْناهَا مَخْصُوصٌ لأنَّ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتي وَرَدَ أنَّها تُدَمِّرُ كُلَّ شىءٍ سَخَّرَهَا اللهُ على الكافِرينَ مِنْ قَوْمِ عادٍ فأهْلَكَتْهُم وَلَمْ تُدَمِّرْ كُلَّ مَن على وَجْهِ الأَرْضِ لأنَّ اللهَ تعالى أَخْبَرَنا أنَّهُ نَجَّى هُودًا عليه السلام وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤمِنينَ، قَالَ تعالى (وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) سورة هود 58.
وَمِنَ الأَمْثِلَةِ على العامِّ الْمَخْصوصِ قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ عَيْنٍ زانيةٌ) وَمْعلومٌ شَرْعًا أنَّ هذا الْحديثَ لا يَشْمَلُ أَعْيُنَ الأنبياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّ اللهَ تعالى عَصَمَهُم مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى (وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلى الْعَالَمين) سورة الأنعام 86.
وَقَدْ وَرَدَ في الْحَديثِ الصَّحيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوودَ في سُنَنِهِ في بَابِ ذِكْرِ الصُّورِ وَالْبَعْثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ ابْنِ ءادَمَ تأكُلُ الأَرْضُ إلا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ) وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ كَلِمَةَ كُلّ لا تَأتي دَائِمًا لِلشُّمُولِ الْكُلِّيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاء) فَيَكُونُ مَعْنَى (كُلُّ ابْنِ ءادَمَ تأكُلُ الأَرْضُ) الأغْلَبَ لأَنَّ الرَّسُولَ اسْتَثْنَى في الْحَديثِ الآخَرِ الأَنْبِيَاءَ.