إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

اعلم أرشدنا الله وإيَّاك أن الله سبحانه وتعالى خالق العالم بأسره العلوي والسفلي والعرش والكرسي، وهو الأول أي الأزلي الذي لا بداية لوجوده، كان في الأزل وحده ولم يكن شىء من العوالم الكثيفة كالعرش والشمس والقمر والإنسان ولا من العوالم اللطيفة كالنور والظلام والأرواح فهو موجود لا كالموجودات ليس كخلقه جسمًا لطيفًا ولا جسمًا كثيفًا لقوله تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثْله شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى/11] وذلك لأنه لو كان جسمًا كثيفًا لكان له أمثال ولو كان جسمًا لطيفًا لكان له أمثال وقد دلت هذه الآية على ذلك وعلى أنه لا يتصف بصفات العالمين كالحركة والسكون والتحول من حال إلى حال والتحيز في جهة أو مكان والجلوس والاستقرار في جهة وذلك لأن الجلوس صفة مشتركة بين الإنسان والملائكة والجن والطيور، فهو سبحانه وتعالى الموجود الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، وما سواه حادث مخلوق خلقه الله بقدرته فأبرزه من العدم إلى الوجود، قال الله تبارك وتعالى: ﴿اللهُ خٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ﴾ [سورة الزمر/62]، وقال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شِيْء فَقَدَّره تَقديرًا﴾ [سورة الفرقان/2]، وقال تعالى: ﴿الحَمْدُ لله الّذي خَلَقَ السَّمٰوٰتِ والأرضَ وجَعلَ الظُلُمٰتِ والنورَ﴾  [سورة الأنعام/1]، فإن الله سبحانه أخبر في هذه الآية بأنه لم يكن في الأزل نور ولا ظلام فوجب الإيمان بأنه مضى وقت لم يكن فيه نور ولا ظلام فيجب الإيمان بذلك مع أن وهم الإنسان لا يستطيع أن يتصوره فكيف يستطيع أن يتصور الله، فالعقل الذي يعجز عن أن يتصور بعض المخلوقات كيف يستطيع أن يتصور الخالق فهو كما قال أئمة الهدى: “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك”، قال ذلك الإمام أحمد بن حنبل والإمام ذو النون المصري والشافعي وغيرهم.
أما الماء والعرش فهما أول خلق الله، وأولهما وجودًا الماء، فهو أصل لغيره من المخلوقات والله تعالى خلقه بقدرته من غير أصل، فبداية العالم إذًا من غير مادة ولا يحيل العقل السليم ذلك، والدليل الشرعي الذي استند إليه العلماء في أن أصل العالم هو الماء وهو أول المخلوقات خبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي رواه ابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل شىء خلق من الماء“، ولفظ ابن حبان أن أبا هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقَرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء، قال: “إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء“، وفي لفظ: “كل شىء خلق من الماء“، وروى السُّدي بأسانيد متعددة عن جماعة من الصحابة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: “إن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء“. فيتبين بذلك أن الماء هو أصل جميع المخلوقات وهو أول الخلق، فمن الماء خلق الله العالم.
وثاني المخلوقات بعد الماء العرش وهو أكبر الأجرام التي خلقها الله، ثم خلق الله القلم الأعلى، ثم اللوح المحفوظ. والذي يدل على أولية هذه المخلوقات الأربعة ما رواه البخاريُّ وابن الجارود والبيهقي من حديث عمران بن الحصين قال: أتى أناسٌ من أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقَّه في الدين فأنبئنا عن بَدء هذا الأمر ما كان، فقال: “كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كلَّ شىء، ثم خلق السموات والأرض” وفي رواية البيهقي من طريق أبي معاوية: “كان الله قبل كل شىء” فهذا الوفد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا الأمر أي عن أول العالم فَأَجَابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً بالأهم أي بأهمّ ممَّا سألوا وهو أنه أثبت الأزلية لله وحده، ثم أجابهم عن سؤالهم وهو أول العالم وبدء الخلق، والأمر الأهم هو قوله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره” أي كان الله في الأزل موجودًا وليس غيره معه، فأفادهم عليه الصلاة والسلام أنَّ الأزلية المطلقة ليست إلا لله الخالق، وأن الموجود الذي لا ابتداء لوجوده هو الله سبحانه وتعالى فقط لا يشاركه في هذه الصفة شىء غيره من المخلوقات، لأن الألوهية لا تصح مع إثبات شىء غير الله مع الله تعالى في الأزل، وقد أثبت الله في القرءان الأزلية له وحده ليفهمنا أن هذا العالم كله مخلوق خلقه من العدم إلى الوجود، قال الله تعالى: ﴿هوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهرُ والباطِنُ وَهُوَ بكُلِّ شَيْءٍ عَليْمٌ﴾ [سورة الحديد/3] والأول إذا أطلق على الله معناه الذي لا بداية لوجوده. وقد أجمع علماء المسلمين قاطبةً على تكفير الذين قالوا بأزلية العالم كابن سينا والفارابي ومن تبعهم، وسواء في الكفر الذين قالوا: إن العالم قديم أزلي بجنسه ونوعه، حادث مخلوق بأفراده، والذين قالوا: إن العالم قديم أزلي بمادته وصورته أي تركيبه، فكلا الفريقين كفار، وممّن نقل الإجماع على تكفيرهم الإمام الفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في كتابه تشنيف المسامع بشرح جمع الجوامع فقال بعد أن ذكر كلام الفريقين: “وضلَّلهم المسلمون وكفّروهم”، وممن نصّ على تكفيرهم الإمام المجتهد والحافظ اللغوي تقي الدين السّبكي الشافعي، والقاضي عياض المالكي، والحافظ ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري وغيرهم.
أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي أنه قال: “أولُّ ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة” فالمراد به الأولية النسبية أي هو أول بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، ويعين هذا التأويل حديث مسلم في صحيحه: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء” فقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير.
وبما تقدم من النقل الصحيح يعلم بطلان قول إن النور المحمدي هو أول خلق الله، والاستدلال لذلك بحديث: “أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر، خلقه الله من نوره قبل الأشياء” باطل لأنه حديث موضوع على رسول الله كما قال السيوطي في شرح الترمذي وغيره، وهو جَديرٌ بكونه موضوعًا لمخالفته القرءان والحديث ولا يصح نسبته إلى مصنف عبد الرزاق الصنعاني لأنه ذكر في تفسيره أن الماء بدءُ الخلق، وأما حديث: “أول ما خلق الله العقل” فليس بثابت كما ذكر الحافظ العراقي وغيره.