إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
بيان شبه المانعين من الإشتغال بعلم الكلام
ذهب بعض الناس إلى تحريم الاشتغال بعلم الكلام مستدلين بأن الصحابة لم يتعلموا ولا علَّموا هذا العلم، وأن جماعة من السلف ذموه إلى غير ذلك من الشبهات، وجواباً على ذلك نقول: إن قولهم لم ينقل أنه علّم أحداً من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علّم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان .، فلو كان هذا العلم مهمّاً في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون. قلنا: إن عُني بهذا المقال أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحقية رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل بل أقروا بذلك تقليداً فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد ردَّ الله عز وجلَّ في كتابه على من قلَّد أباه في عبادة الأصنام بقوله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ{23}) سورة الزخرف، أي أن أولئك اقتدوا بآبائهم في إشراكهم بغير دليل يقوم على صحة ذلك الدين، وهذا يفهم منه أن علم الدليل مطلوب، قال أبو حنيفة جواباً على القائلين: لِمَ تتكلمون بعلم الكلام والصحابة لم يتكلموا فيه “إنما مثلهم كأناس ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلم يحتاجوا إلى إبراز السلاح، ومثلنا كأناس بحضرتهم من يقاتلهم فاحتاجوا إلى إبرأز السلاح” أهـ.
وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو: الجوهر والعرض، والجائز والمحال، والحدث والقِدم، فهذا مُسَلَّمٌ به، لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم، فإنه لم ينقل عن النبي ولا عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمتشابه، وغيرها كما هو المستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة والمناقضة، والطرد والشرط، والسبب والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة، على أنه في عصر النبي لم تظهر الأهواء والبدع فلم تمسّ الحاجة إلى الدخول في التفاصيل والاصطلاحات. فإن قيل: روى البيهقي(1) بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال “تفكَّروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله” فهو منهي عنه. فالجواب: أن النهي ورد عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر وإعمال الفكر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض ليستدل بذلك على وجود الصانع، وعلى أنه لا يشبه شيئاً من خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر الصحيح. وقد أمر القرءان بتعلّم الأدلة على العقائد الإسلامية على وجوده تعالى وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة والوحدانية إلى غير ذلك، ولم يطعن إمام معتبر في هذا العلم الذي هو مقصد أهل السنّة والجماعة من السلف والخلف.
وما يروى عن الشافعي أنه قال “لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام” بهذا اللفظ فهو غير ثابت عنه، واللفظ الثابت عنه هو “لأن يلقى الله عز وجل العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء” (2). والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف، أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والنجارية وغيرهم، وهم الاثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث المشهور “وان هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة” رواه أبو داود(3). فليس كلام الشافعي على إطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة كتاباً وسنّةً، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمّه الشافعي، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه وقد ناظر بِشْراً المريسي وحفصاً الفرد فقطعهما.
فإن قيل: قد ذمَّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب، وروي مثله عن الإمام مالك والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة. قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله (4)“إنما يريد والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد” اهـ، قال ابن عساكر (5) “فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهاً ءاخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أُمر بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل مـا أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام. وقد بلغني عن حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره، فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسَّق، ومن تفنَّن في الأبواب كلها تخلص” اهـ، وقد روي مثل كلام حاتم عن أبي بكر الورَّاق.
ويضاف جواباً عما تمسك به المانعون مما يذكرونه عن مالك بأن شيخه ابن هرمز أحد فقهاء المدينة المنورة كان بصيراً بعلم الكلام يرد على أهل الأهواء، وقد جالسه مالك كثيراً وأخذ عنه (6) كما تقدم، فبطل بذلك ما تمسك به هؤلاء. فإن قيل: إن الإمام أحمد كان ينكر على مَن يتكلم في علم الكلام فلذلك أمر بهجر الحارث المحاسبي. فالجواب: أن الإمام أحمد لم يحرم الاشتغال بعلم الكلام بدليل ثنائه على المحاسبي، فقد قال تاج الدين السبكي في طبقاته (7) ما نصه “ذكر الحاكم أبو عبد الله أن أبا بكر أحمد بن إسحاق الصَّبْغِيَّ أخبره قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق السرَّاج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يُكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضرنا تلك الليلة وأن يحضر أصحابه، فقال: فيهم كثرة، فلا تَزِدْهم على الكُسْب (8) والتمر، فأتيت أبا عبد الله فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في وِرده وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ثم صلّوا العَتَمة ولم يصلّوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث ينطقون إلى قريب نصف الليل، ثم ابتدأ رجل منهم فسأل عن مسئلة، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير، فمنهم من يبكى ومنهم من يَحِنُّ، ومنهم من يزعق وهو في كلامه، فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله فوجدته قد بكى حتى غُشي عليه، فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى اصبحوا وذهبوا، فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج، وفي رواية أخرى أن أحمد قال: لا أُنكر من هذا شيئا. قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة، واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم، فإنهم في مقامٍ ضيّق لا يسلكه كل أحد فيُخاف على سلكه، وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر، ولكلّ رأي واجتهاد حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى ءاله وأصحابه وسلَّم” اهـ. قال الحافظ أبو بكر البيهقي في “مناقب الشافعي” (9) ما نصه ”باب ما جاء عن الشافعي في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم وذمه كلامهم وإزرائه بهم ودقه عليهم ومناظرته إياهم. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن عبدان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من الهوى. وفي رواية بشيء من الأهواء. زاد فيه غير الربيع: وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إثبات إرادة الله يقول الله عز وجل (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ {30}) [سورة الإنسان]، فأعلم خلقه أن المشيئة له.، وكان يثبت القدر. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثنا أبو يحيى الساجي -أو فيما أجاز لي مشافهة- قال: أخبرنا الربيع فذكره وقال: بشيء من هذه الأهواء. أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا أبو الوليد يقول: سمعت إبراهيم بن محمود يقول: ح وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الوليد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي: أما إنه قصَّر، لو رأيته يمشي في الهواء ما قبلته. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله ابن محمد العمري قال: حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أتيت الشافعي بعدما كلم حفصاً الفرد فقال: غبت عنا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شىء والله ما توهمنه قط، ولأن يُبْتَلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام. قلت: إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حيان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، قال: سمعت أبا الوليد بن الجارود يقول: دخل حفص الفرد على الشافعي فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي فقال لنا: لأن يلقى الله العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول -أي حفص- بخلق القرءان، وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا. وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه. أخبرنا بصحة ذلك أبو عبد الله الحافظ ، قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن محمد- قال: في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف ابن عمرو بن يزيد وحفص الفرد -وكان الشافعي يسميه المنفرد- فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج الشافعي وطالت المناظرة، وغلب الشافعيُّ بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله تعالى غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد. قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد فقال: أراد الشافعي قتلي. وقرأت في كتاب أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي فيما رواه الشيخ أبو الفضل الجارودي الحافظ، عن أبي إسحاق القرّاب قال: حدثنا زكريا، قال: سمعت أبا شعيب المصري- شيخ من أصحاب الحديث- يقول: حضرت الشافعي محمد بن إدريس وعنده يوسف بن عمرو بن يزيد وعبد الله بن عبد الحكم في منزله، فدخل عليهم حفص الفرد وكان متكلماً مناظراً، فقال ليوسف: ما تقول في القرءان؟ فقال: كلام الله ليس عندي غير هذا، وجعلوا يحيلون على الشافعي فأقبل حفص الفرد على الشافعي فقال: إنهم يحيلون عليك، فقال له الشافعي: دع هذا عنك، فلم يزل به، فقال له الشافعي. ما تقول أنت في القرءان؟ قال: أقول: إنه مخلوق، قال: من أين قلت؟ قال: فلم يزل يحتج عليه حفص الفرد بأنه مخلوق ويحتج الشافعي بأنه كلام الله غير مخلوق حتى كفَّره الشافعي وقطعه، قال أبو شعيب: وحججهما عندي في كتاب. قال أبو شعيب: فلما كان من الغد لقيني حفص الفرد في سوق الزجاج فقال: أما رأيت ما صنع بي الشافعي؟ أحب أن يريهم أنه عالم، ثم أقبل عليَّ فقال: مع أنه ما تكلم أحد في هذا مثله ولا أقدر منه على هذا. وقد ذكرنا قبل هذا مناظرته مع حفص في زيادة الإيمان ونقصانه، وذكر الحميدي أحسن ما يحتج به على أهل الأرجاء فذكر لابن هَرِم ما يحتج به على من أنكر الرؤية. وقرأت في كتاب الساجي عن أحمد بن مدرك الرازي قال: سمعت عبد الله بن صالح كاتب الليث يقول: كنا عند الشافعي في مجلسه فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي ، فكتبناه وذهبنا به إلى إبراهيم ابن إسماعيل ابن عُلَيَّة وكان من غلمان أبي بكر الأصم، وكان مجلسه بمصر عند باب الضوال، فلما قرأناه عليه جعل يحتج بإبطاله، فكتبنا ما قال ابن عليّة، وذهبنا به إلى الشافعي، فنقضه الشافعي وتكلم بإبطال ما قاله ابن عليَّة وقال: ابن علية ضال قد جلس عند باب الضَّوال يضل الناس. وبلغني عن يعقوب بن سفيان أنه حكى عن إبراهيم ابن عُلَيَّة هذا أنه تكلم في القرءان بما لا أستجيز حكايته. وقرأت في كتاب أبى نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي. كلم الشافعي يوماً بعض الفقهاء، فدقَّق عليه وحقَّق وطالب وضيَّق، فقلت له: يا أبا عبد الله هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني نصر بن محمد الصوفي قال: سمعت عبد الرحمن بن حفص الصوفي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت ابن بحر يقول: سمعت المزني يقول: دار بيني وبين رجل مناظرة فسألني عن كلام كاد أن يشككني في ديني، فجئت إلى الشافعي فقلت له: كان من الأمر كيت وكيت، قال: فقال لي: أين أنت؟ فقلت: أنا في المسجد، فقال لي: أنت في مثل تاران (10) تلطمك أمواجه، هذه مسئلة الملحدين والجواب فيها كيت وكيت، ولأن يبتلى العبد بكل ما خلق الله من مضاره خير له من أن يبتلى بالكلام. قلت: تاران في بحر القلزم، يقال فيها غرق فرعون وقومه، فشبه الشافعي المزني فيما أورد عليه بعض أهل الإلحاد ولم يكن عنده جواب بمن ركب البحر في الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه وأشرف على الهلاك.، ثم علمه جواب ما أورد عليه حتى زالت عنه تلك الشبهة، وفي ذلك دلالة على حسن معرفته بذلك، وأنه يجب الكشف عن تمويهات أهل الإلحاد عند الحاجة إليه، وأراد بالكلام ما وقع فيه أهل الإلحاد من الإلحاد وأهل البدع من البدع. والله أعلم. فأما استحبابه ترك الخوض فيه والإعراض عن المناظرة فيه عند الاستغناء عنها فقد كان رحمه الله يميل إليه مع معرفته به. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو احمد بن أبي الحسن قال: أخبرنا عبد الرحمن- يعني ابن محمد- أخبرنا الربيع قال: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون في شىء من الكلام فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا. وأخبرنا أبو عبد الله قال: سمعت أبا الفضل الحسن بن يعقوب العدل يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن رَوْح يقول: سمعت المزني يقول: كنا على باب الشافعي نتناظر في الكلام، فخرج إلينا الشافعي وسمع بعض ما كنا فيه فرجع عنا فما خرج إلينا إلا بعد سبعة أيام، ثم خرج فقال: ما منعني من الخروج إليكم علة عرضت ولكن لما سمعتكم تتناظرون فيه أتظنون أني لا أحسنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت منه مبلغاً، وما تعاطيت شيئاً إلا وبلغت فيه مبلغاً حتى الرمي كنت أرمي بين الغرضين فأصيب من العشرة تسعة ولكن الكلام لا غاية له.، تناظَرُوا في شىء إن أخطأتم فيه يقال لكم: أخطأتم، لا تناظروا في شىء إن أخطأتم فيه يقال لكم: كفرتم. أخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، عن أبي العباس محمد بن عبد الرحمن يعني الدغولي قال: سمعت زكريا ابن يحيى يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: قال الشافعي: يا محمد، إن سألك رجل عن شىء من الكلام فلا تجبه، فإنه إن سألك عن دية فقلت: درهماً أو دانقاً قال لك: أخطأت، وإن سألك عن شىء من الكلام فزللت قال: كفرت. وفي حكاية المزني عن الشافعي رحمه الله دلالة على أنه كان قد تعلم الكلام وبالغ فيه، ثم استحب ترك المناظرة فيه عند الاستغناء عنها. وفي رواية زكريا بن يحيى الساجي عن الربيع في هذه الحكاية بعينها قال: انحدر علينا الشافعي من درجته يوماً وهم يتجادلون في القدر فقال: إما أن تقوموا عنا أو تجاورونا بخير، فلأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء. فإنما أراد ذم مذهب القدرية، ألا تراه قال بشىء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه. وكأنه تبع فيه ما رويناه عن عمر بن الخطاب عن النبي أنه قال “لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث” وغير ذلك من الأخبار الواردة في معناه. وعلى مثل هذا جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله عز وجل، وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شىء إلا بحكم الله وتقديره وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سمّوا ما في كتاب الله عز وجل من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا يترك القول بالأخبار أصلاً وزعموا أن الأخبار التي حملت إليهم لا تصح في عقولهم، فقام جماعة من أئمتنا رحمهم الله بهذا العلم وبَيَّنُوا لمن وُفّق للصواب ورُزق الفهم أنَّ جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في العقول، وما ادعوه في الكتاب من التَّشابه باطل في المعقول. وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم وكشفوا عنها بما هو حجة عليهم عندهم، كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما في ترك إنكار المنكر والسكوت عليه من الفساد والتعدي. وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء.، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يتسمون بتسميتهم، ولهذا قال الشافعي ما أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو نصر محمد بن علي بن طلحة المروروذي قال: حدثنا أبو سعيد أحمد بن علي الأصبهاني قال: حدثنا زكريا ابن يحيى الساجي قال: حدثني محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا ثور وحسيناً يقولان: سمعنا الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدّينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا زكريا بن يحيى السَّاجي. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الطيب الفقيه قال: حدثنا أبو جعفر الأصبهاني قال: حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى قال: حدثنا أبو داود- يعني السّجستاني – قال: حدثنا أبو ثور قال: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لم يفلح. وإنما يعني- والله أعلم- كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معوَّلهم عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حُمِلت إليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها. فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم على العقل، وبالله التوفيق. ولاستحباب الشافعي ومن كان في عصره من أئمتنا ترك الخوض في الكلام وترك الاشتهار به عند الاستغناء عنه معنى ءاخر، وهو أن الشافعي حين قدم العراق في خلافة الرشيد كان قد دخل على المأمون باستدعائه دخوله عليه ورأى تقريبه بشراً المريسي وأمثاله من أهل البدع، وحين عاد إلى العراق في خلافة المأمون شاهد غلبة أهل الأهواء على مجلسه، وأحس ببعض ما رأى أهل السنة من غلبة أهل الأهواء في عصره، ثم بما أصابهم من المحنة في أيام المعتصم والواثق ” انتهى كلام البيهقي. ثم قال البيهقي(11) “وفي كل ذلك دلالة على أن استحباب من استحب من أئمتنا ترك الخوض في الكلام إنما هو للمعنى الذي أشرنا إليه، وأن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة وبُيّنَ بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم عند الحاجة كما سبق ذكرنا له” اهـ. وقال العلامة البياضي الحنفي في “إشارات المرام” ما نصه (12) “وما روي عن أبي يوسف أن الجهل بالكلام هو العلم، ولا يشمل الوصية للعلماء لأهل الكلام فهو في كلام المخالفين من أهل الأهواء كما في الكردرية وشرح المنهاج للسبكي وشرح جمع الجوامع، وما روي عنه أنه زندقة وأنه ألف الرسالة في المنع عنه ففي كلام أهل الأهواء المكفرة كما في التبصرة البغدادية، ومن حمله على إطلاقه فقد جهل أصولهم المقررة، وسيأتي تفصيله في الباب الثالث إن شاء الله تعالى، وما روي عنه وعن محمد من عدم تجويزهما الاقتداء بمن يناظر فيه وَرَدَ مفسراً بكراهته فيمن يناظر فيه للغلبة والإيراد دون إظهار الحق والإرشاد كما في الخانية والملتقط فإنهما كانا يناظران فيه كما مر، وفي الخانية ومجمع الفتاوى أن المنهي عنه هو كلام الفلاسفة وكلام الخصومة، فأما المناظرة فيه على وجه إظهار الحق فلا كراهة فيها بل هي المأمور بها في قوله تعالى (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {125}) [سورة النحل]، وكذا ما روي عن مالك أن أهل الكلام أهل البدعة محمول على كلام المخالفين كما تدل عليه التسمية، فإنه كان خاصّاً بكلامهم في عصر السلف كما صرح به البيهقي، وكذا ما روي عن الشافعي أنه قال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد، ولأن يلقى الله تعالى العبدُ بكل ذنب سوى الإشراك خير له من أن يلقاه بشىء من الكلام، ورأى في أهله بأن يضربوا بالجريد وأن يطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، فقد قال البيهقي: إنما أراد به كلام أهل الأهواء كحفص الفرد وأمثاله، فبعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده” اهـ. ثم قال البياضي (13) “وكذا ما روي عن أحمد بن حنبل أنه بدعة وأنه لا يفلح صاحب الكلام أبداً فإن المراد منه كلام أهل الأهواء” اهـ. وأما تمسك البعض بما يروي عن ابن خويزمنداد من ذمه لعلم الكلام فالجواب ما قاله الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ونص عبارته (14) “قلت: قال ابن برزة شارح إرشاد إمام الحرمين: هذا النقل عنه باطل، فإن صح عنه فالحق حجة عليه، وإذا تصفحت قواعد الأشعرية ومذاهبهم ومبادئهم وجدتها راجعة لعلم الكلام بل من أنكر علم التوحيد أنكر القرءان وذلك عين الكفران والخسران، وكيف يرجع لابن خويزمنداد ويترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من الصحابة ومن بعدهم كالأشعري والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والإسفراييني والباقلاني وغيرهم من أهل السنة، وأنشدوا في تفضيله: أيها المقتدي ليطلب علما…. كلّ علم عبد لعلم الكلام
وقال الحافظ ابن عساكر (15) “أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي قال: قال لنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: إن الأشعري لا يشرط في صحة الإيمان ما قالوه يعني من شنع عليه أن أغمار العوام عنده غير مؤمنين لأنهم خليون عن علم الكلام بل هو وجميع أهل التحصيل من أهل القبلة يقولون يجب على المكلف أن يعرف الصانع المعبود بدلائله التي نصبها على توحيده واستحقاقه نعوت الربوبية، وليس المقصود استعمال ألفاظ المتكلمين من لفظ الجوهر والعرض وإنما المقصود حصول النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله، وإنما استعمل المتكلمون هذه الألفاظ على سبيل التقريب والتسهيل على المتعلمين، والسلف الصالح وإن لم يستعملوا هذه الألفاظ فلم يكن في معارفهم خلل، والخلف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مباينة ولا في الدين بدعة كما أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ العلة والمعلول والقياس وغيره، ثم لم يكن استعمالهم بذلك بدعة ولا خُلُو السلف عن ذلك كان لهم نقصاً وكذلك شأن النحويين والتصريفيين ونقلة الأخبار في ألفاظ تختص بها كل فرقة منهم. فإن قالوا: إن الاشتغال بعلم الكلام بدعة ومخالفة لطريقة السلف، لا يختص بهذا السؤال الأشعري دون غيره من متكلمي أهل القبلة، ثم الاسترواح إلى مثل هذا الكلام صفة الحشوية الذين لا تحصيل لهم، وكيف يظن بسلف الأمة أنهم لم يسلكوا سبيل النظر وأنهم اتصفوا بالتقليد، حاش لله أن يكون ذلك وصفهم ولقد كان السلف من الصحابة مستقلين بما عرفوا من الحق وسمعوا من لرسول من أوصاف المعبود وتأملوه من الأدلة المنصوبة في القرءان وإخبار الرسول في مسائل التوحيد، وكذلك التابعون وأتباع التابعين لقرب عهدهم من الرسول ، فلما ظهر أهل الأهواء وكثر أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية وأوردوا الشبه انتدب أئمة أهل السنة لمخالفتهم والإيصاء للمسلمين بمباينة طريقتهم، فلما أشفقوا على القلوب أن يخامرها شبههم شرعوا في الرد عليهم وكشف شبههم وأجابوهم عن أسئلتهم وحاموا عن دين الله بإيضاح الحجج، ولم يقولوا في مسائل التوحيد إلا بما نبههم الله سبحانه عليه في محكم التنزيل، والعجب ممن يقول ليس في القرءان علم الكلام والآيات التي هي في الأحكام الشرعية نجدها محصورة والآيات المنبهة على علم الأصول نجدها توفي على ذلك وتربي بكثير. وفي الجملة لا يجحد علم الكلام إلا أحد رجلين: جاهل ركن إلى التقليد وشق عليه سلوك طرق أهل التحصيل وخلا عن طرق أهل النظر والناس أعداء ما جهلوا، فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى الناس ليضل كما ضل، أو رجل يعتقد مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار مذهبه ويعمي عليهم فضائح عقيدته ويعلم أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر عن بدعهم ويظهرون للناس قبح مقالاتهم، والقَلاّب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من النقود الفاسدة كالصراف ذي التمييز والبصيرة، وقد قال الله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ {9}) [سورة الزمر]،. فهذا ما حضرني من مدح الكلام والمتكلمين وذكر بعض من كان نعلمه من علماء المسلمين.
فإن قال بعض الجهال من المبتدعة: لسنا نعرف غير المذاهب الأربعة فمن أين أتى هذا المذهب الخامس الذي اخترعتموه ولمَ رضيتم لأنفسكم بالانتساب إلى الأشعري الذي اتبعتموه، وهلا اقتنعتم بالانتساب إلى الإمام الألمعي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فإنه أولى بالانتساب إليه ممن سواه وأحق بالانتماء إلى مذهبه ممن عداه؟ قلنا: هذا قول عري عن الصدق وقائله بعيد عن الحق فمن ذا الذي حصر المذاهب بالعدد الذي حصرتم ومن يصحح لكم من قولكم ما ذكرتم، بل المذاهب أكثرها لا ينحصر بهذا العدد الذي عددتم ولو كانت منحصرة به لم يحصل لكم بذلك ما قصدتم، وكأنكم لم تسمعوا بمذهب الليث بن سعد المصري وعثمان بن سليمان البتي البصري وإسحاق بن راهويه الخراساني وداود بن علي الأصبهاني وغيرهم من علماء الإسلام الذين اختلفوا في الفتاوى والأحكام لا في أصول الدين المبنية على القطع واليقين، وليس انقراض أرباب هذه المذاهب التي سمينا يصحح لهذا الجاهل هذه المقالة التي عنه حكينا. ولسنا نسلَّم أن أبا الحسن اخترع مذهباً خامساً وإنما أقام من مذاهب أهل السنة ما صار عند المبتدعة دارساً، وأوضح من أقوال من تقدمه من الأربعة وغيرهم ما غدا ملتبساً، وجدد من معالم الشريعة ما أصبح بتكذيب من اعتدى منطمساً، ولسنا ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنَّا نقلده فيه ونعتمد عليه ولكنا نوافقه على ما صار إليه من التوحيد لقيام الأدلة على صحته لا لمجرد التقليد، وإنما ينتسب منا من انتسب إلى مذهبه ليتميز عن المبتدعة الذين لا يقولون به من أصناف المعتزلة والجهمية المعطلة والمجسمة والكرامية والمشبهة السالمية وغيرهم من سائر طوائف المبتدعة وأصحاب المقالات الفاسدة المخترعة، لأن الأشعري هو الذي انتدب للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمن لم يعرف البدع بدعهم، ولسنا نرى الأئمة الأربعة الذين عنيتم في أصول الدين مختلفين بل نراهم في القول بتوحيد الله وتنزيهه في ذاته مؤتلفين، وعلى نفي التشبيه عن القديم سبحانه وتعالى مجتمعين، والأشعري رحمه الله في الأصول على منهاجهم أجمعين، فما على من انتسب إليه على هذا الوجه جناح ولا يرجى لمن تبرأ من عقيدته الصحيحة فلاح، فإن عددتم القول بالتنزيه وترك التشبيه تمشعراً فالموحدون بأسرهم أشعرية، ولا يضر عصابة انتمت إلى موحد مجرد التشنيع عليها بما هي منه برية، وهذا كقول إمامنا الشافعي المطلبي ابن عم المصطفى النبي فيما أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن عبد الله ابن أحمد الواسطي ببغداد قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار ابن المثنى الأستراباذي ببيت المقدس قال: أخبرنا علي بن الحسن بن حيويه الدامغاني قال: أنا محمد بن محمد بن الأشعث، ثنا الربيع هو ابن سليمان، قال: أنشدنا الشافعي :
يا راكباً قف بالمحصب من منى**** واهتف بقاطن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب ءال محمد ***** فليشهد الثقلان إني رافضي
انتهى كلام الحافظ ابن عساكر.
…………………………………………………………………………………..
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/ 420).
(2) أخرج طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب: رح السنّة.
(4) و (5) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 334).
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 379- 0 38).
(7) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 279).
(8) الكسب بالضم: عصارة الدهن
(9) مناقب الشافعي(1/452-464).
(10) “تاران ” جزيرة في بحر القلزم بين القلزم وأيلة وهو أخبث مكان في هذا البحر، فيه دوران ماء في سفح جبل إذا وقع الريح على ذروته أنقطع الريح قسمين فيلقى المركب بين شعبتين من هذا الجبل متقابلتين فتخرج الريح من كليهما فيثور البحر على كل سفينة تقع في ذلك الدوران. راجع معجم البلدان (2/ 352- 353).
(11) مناقب الشافعي (1/ 467).
(12) إشارات المرام (ص/ 36).
(13) المصدر السابق (ص/ 37).
(14) الفتاوى الحديثية (ص/ 207- 208).
(15) تبيين كذب المفتري (ص/ 357 وما بعدها)، وطبقات الشافعية (3/ 420 وما بعدها).