إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
بيان
مسلك العلماء في تأويل ءاية الاستواء
اعلم أن لعلماء أهل الحق مسلكان كل منهما صحيح :
الأول : مسلك السلف وهم من كان من أهل القرون الثلاثة الأولى وقرن أتباع التابعين وقرن التابعين وقرن الصحابة وهو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء يسمون السلف، والغالب عليهم أن يؤولوا الآيات المتشابهة تأويلا إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين بلا تعيين معنى خاص كآية : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] وغيرها من المتشابه بأن يقولوا بلا كيف أو على ما يليق بالله، وهذا يقال له تأويل إجمالي، أي قالوا استوى استواء يليق به مع تنـزيهه عن صفات الحوادث، ونفوا الكيفية عن الله تعالى أي من غير أن يكون بهيئة ومن غير أن يكون كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وغيرها مما هو صفة حادثة. هذا مسلك غالب السلف ردّوها من حيث الاعتقاد إلى الآيات المحكمة كقول تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ } [سورة طه ] وتركوا تعيين معنىً معيّن لها مع نفي تشبيه الله بخلقه .
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ((ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله )) يعني رضي الله عنه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية الجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.
قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (ص407) : (( فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك )) ا هـ، وقال في موضع ءاخر (ص426) : (( وحكينا عن المتقدمين من أصحابنا ترك الكلام في أمثال ذلك، هذا مع اعتقادهم نفي الحد والتشبيه والتمثيل عن الله سبحانه وتعالى )) ا هـ ، ثم أسند (ص426) إلى أبي داود قوله: (( كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون ، يروون الحديث لا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر، قال أبو داود: وهو قولنا. قلت: وعلى هذا مضى أكابرنا )) اهـ، وقال في موضع ءاخر (ص 453) : (( عن الأوزاعي عن الزهري ومكحول قال : أمضوا الأحاديث على ما جاءت )) اهـ ، ثم قال : ((سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه – أي ظاهرها يوهم ذلك – فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيفية )) اهـ ، وقال في موضع ءاخر (ص330): (( عن سفيان بن عيينة قال : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه )) اهـ، وقال الإمام مالك : (( الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ))، وفي رواية:((الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول )) اهـ، رواهما البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (ص408) ، وقال الإمام أحمد عندما سئل عن الاستواء : (( استوى كما أخبر لا يخطر للبشر)) (دفع شبه من شبه وتمرد ص 17) اهـ.
والثاني : مسلك الخلف وهم الذين جاءوا بعد السلف، وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف، فيقولون استوى أي قهر، ومن قال استولى فالمعنى واحد أي قهر ، ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظا من التشبيه .
قال الحافظ البيهقي في كتابه (( الاعتقاد )) ما نصه (ص72) : (( وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا – يعني المتشابه – ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله على قسمين : منهم من قبله وءامن به ولم يؤوله ووكل علمه إلى الله ونفى الكيفية والتشبيه عنه، ومنهم من قبله وءامن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد، وقد ذكرنا هاتين الطريقتين في كتاب (( الأسماء والصفات )) التي تكلموا فيها من هذا الباب )) اهـ.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني (ت403هـ) في كتابه (( الإنصاف )) ما نصه (ص64-65) : (( إنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بصفات المحدثات ،وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال ولا القيام ولا القعود لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ} [سورة الشورى] ، وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }[ سورة الإخلاص ] ،ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك . فإن قيل أليس قد قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ] ، قلنا : بلى قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث ، ونقول : استواؤه لا يشبه استواء الخلق ، ولا نقول إن العرش له قرار ولا مكان – أي لا نقول إن العرش مكان له – لأن الله تعالى كان ولا مكان ، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان )) اهـ.
وقال البيضاوي في تفسيره (م2 /ج3 /ص12) : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف] استوى أمره أو استولى ، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفه لله بلا كيف ، والمعنى أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منـزها عن الاستقرار والتمكن )) اهـ.
فالحاصل أن الذي لا يحمل الآيات المتشابهة على ظاهرها بل يقول لها معان لا أعلمها تليق بالله تعالى غير هذه الظواهر مثلا استواء الله على العرش له معنى غير الجلوس وغير الاستقرار غير استواء المخلوقين لكن لا أعلمه فهذا سَلِمَ، وهذا هو الغالب على السلف حيث لا يخوضون بتعيين معان لها وتأويلها مع اعتقاد تنـزيه الله عن الجلوس والاستقرار. وكذلك الذي يقول استواء الله على العرش هو قهره للعرش سَلِمَ من التشبيه. فالأول هو التأويل الإجمالي أي يقول استوى استواء يليق به من غير أن يفسره بالقهر، والثاني هو التأويل التفصيلي أي يقول استوى معناه قهر، فمن شاء أخذ بذاك ومن شاء أخذ بهذا.
أما الوهابية فليسوا على ما كان عليه السف ولا الخلف، بل هم على مسلك المجسمة المشبهة، لأن الوهابية حملوا الاستواء على الاستقرار ومنهم من حمله على الجلوس فوقعوا في تشبيه الله بخلقه، فلا يقال عنهم (( السلفيون)) أو (( السلفية )) وإن سموا أنفسهم بذلك ليخدعوا الناس أنهم على مذهب السلف، وقد علمت أن مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنـزيه دون التجسيم والتشبيه، والمبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف، فهم كما قال القائل :
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا