إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحمدُ للهِ ثم الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى، الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ الفردِ الصمدِ الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفُوًا أحد، أحمدُه تعالى وأستهديهِ وأستغفِرُه وأتوبُ إليهِ وأعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فهو المُهتدِ ومن يضلِلْ فلن تجدَ له وليًّا مرشدًا.
والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا وحبيبِنا وعظيمِنا وقرَّةِ أعينِنا أحمدَ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هادِيًا ومبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه سراجًا وهاجًا وقمرًا منيرًا، فهدى اللهُ بهِ الأُمّةَ وكشفَ بهِ عنها الغُمّةَ وبلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائِه.
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسله.
 
أما بعد أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العلي العظيم فاتقوه واعلموا أنَّ اللهَ تعالى يقولُ في القرءانِ الكريم (والعصرِ إنَّ الإنسانَ لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحاتِ وتواصَوا بالحق وتواصَوا بالصبر).
 
سورة العصر مكية على قول جمهور المفسرين، وقال بعضهم هي مدنية، وهي ثلاث ءايات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفا.
 
يقول ربنا والعصر، قسم، أقسم الله به، أقسم الله بالعصر، والعصر اختلف فيه العلماء منهم من قال إن المراد بذلك صلاة العصر لفضلها، وقال بعضهم العصر هنا معناه الدهر، أقسم الله بالدهر لأن في الدهر عبرة للناظرين، لاشتماله على أصناف العجائب وتبدل الأحوال.
 
والعصر إن الإنسان، التعبير بالإنسان ولكن المراد جميع الناس، إن الإنسان أي الناس لفي خسر أي لفي خسران، أي هلكة ونقصان، إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحاتِ وتواصَوا بالحق وتواصَوا بالصبر.
 
فأولُ خصلةٍ ذُكِرَت فيها هي خصلةُ الإيمانِ لأنَّهُ لا نجاةَ في الآخرةِ بدونِه مهما فعلَ الإنسانُ.
 
وأما الخصلةُ الثانيةُ فهي عملُ الصالحاتِ الذي هو عبارةٌ عن أداءِ ما افترضَ اللهُ تعالى على عبادِه منَ الأعمالِ.
 
أما الخصلةُ الثالثةُ إخوةَ الإيمان، فهي قولُه تعالى (وتواصَوا بالحق) أي نصَحَ بعضُهُم بعضًا بالإرشادِ إلى عملِ الخيرِ والبِر.
 
ثم ذكرَ الخصلةَ الرابعةَ بقولِه (وتواصَوا بالصبر) وذلكَ بمعنى التَّنَاهي عن الـمُنكرِ لأن الصبرَ إذا أُطلقَ يكونُ شاملاً للصَّبرِ على الطاعاتِ وللصبرِ عن المعاصي وللصبرِ على البلايا والشدائِدِ والمشقاتِ، وهذا حالُ من اختارَهُم اللهُ تعالى من المؤمنينَ بأن يكونوا من أحبابِه وأصفيائِه.
 
فأقَّلُ أحوالِ المسلمِ أن يكونَ مؤمِنًا باللهِ ورسولِهِ مجتنِبًا للكفر، أما الزيادةُ على ذلك بالعملِ بهذهِ الخصالِ المذكورةِ في هذه السورة، فهذا شِعارُ الصالحينَ المفلحينَ الناجينَ يومَ القيامةِ من الخِزيِ والعذاب.
 
إخوةَ الإيمان، لقد عظَّمَ اللهُ تبارك وتعالى شأنَ التَّناصُحِ والتَّواصِي بالخيرِ فقالَ تعالى في الحديثِ القدسي (وحقَّت محبَّتي للمُتَناصِحين فِيَّ) وذلك لأنَّ من شأنِ المؤمنِ الذي يُحِبُّ أخاهُ المؤمنَ أن ينصَحَهُ ويدُلَّهُ على عملِ الخيرِ لا أن يداهِنَه ويَغُشَّهُ، نعم أيها الأحبة، لأنَّ الـمُداهنةَ هيَ تحسينُ الباطلِ وتزيينُه كما يفعَلُ الرجلُ مع الرجلِ لأنهُ صديقُه أو لأنه قريبُه أو لأنه يرأسُه، بل ينبغي للمؤمنِ الذي يحبُّ أخاه المؤمنَ أن تكونَ معاملتُهُ له معاملةً صافِيةً في دينِ اللهِ لا يخالِطُها غَشٌ ولا مداهنةٌ.
 
ويكون الجامعُ الذي يجمعُ بينَهُم هو التعاوُنُ في مرضاةِ اللهِ ليسَ همُّهُم التعاونَ للوُصولِ إلى مطمَعٍ دُنيويٍّ، لذلك لا يكتُمُ بعضُهُم بعضًا ما فيهِ النصحُ لهم بل يُخلِصُ بعضُهم لبعضٍ النُّصحَ لأنَّ الإنسانَ إذا كان همُّه مرضاةَ اللهِ يكونُ محلُّ نظرِه إرضاءَ الله.
 
فمن رأى من أخيهِ عورةً أي عيبًا ونقصًا فينبغي له أن ينصحَه ويرشِدَه إلى ما فيهِ رضا اللهِ سبحانَه وتعالى، كذلك إذا علِمنا من أيِّ مسلمٍ نقصًا وزلّةً ننصَحُه للهِ تعالى لِيَحْسُنَ حالُه حتى يكونَ من المفلحين.
 
وليُعلم أيها الأحبة أن النصيحةَ ينبغي أن تكونَ بالرفقِ واللينِ فقد قال عليه الصلاةُ والسلام (إن اللهَ يُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنف) وقال أيضًا (إنَّ اللهَّ يحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّهِ) رواه مسلم.
وتكونُ النصيحةُ أيضًا بحيثُ لا تحصلُ الفضيحةُ فيها أمامَ الناسِ بل ننصحُهُ ولو بالإشارةِ إن كانت تكفِي فالمسلِمُ الذي يفعَلُ ما يُعابُ عليهِ فيهِ ينبغي أن نستُرَ عليهِ فقد قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ (ومن ستَرَ مسلمًا سترَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةَ) وقالَ صلى اللهُ عليه وسلم (من رأَى من أخيهِ عورةً فسَتَرَها كان كمن أَحْيا موؤودةً من قبرِها).
 
فإذا رأينا من مسلمٍ عيبًا أو رأيناهُ هفَا هفوةً فالمطلوبُ أن نستُرَ عليهِ ولا نفضحَهُ وهذا فيما إذا كانتِ العيوبُ لا تعلُّقَ لها بالإضرارِ بالناسِ أما ما فيهِ إضرارٌ بالناسِ في دينِهم أو دنياهُم فالمطلوبُ أن نحذِّرَ منه.
 
وليُعلم أيضًا أنهُ من الخطأِ الكبيرِ ما يفعلُه بعضُ الناسِ من أنَّهم إذا رأَوْا إنسانًا أخطأَ في أمرٍ دينيٍ كأن كانَ يصلِّي صلاةً فاسدةً أو يصومُ صيامًا فاسدًا أو يعملُ عملاً ءاخرَ لم تكتَمِلْ شروطُه وأركانُه، نراهُم يدافِعونَ عنهُ بقولِهم (إنما الأعمالُ بالنيات) فهذا الحديثُ النبويُّ الشريفُ ليس هذا محلَّهُ لأن النبيًّ عليه الصلاة والسلام بيَّنَ أهميةَ القيامِ بفرائضِ اللهِ تعالى على الوجهِ الكاملِ ليسَ بأن يُترُكَ الشخصُ على جهلِه ثم يُحاسَبُ على نِيَّتِه، بل لقد وردَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ في المسجدِ فدخلَ رجلٌ فصلَّى ثم جلَسَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ لهُ عليهِ الصلاةُ والسلام قُم فصلِّ فإنكَ لم تصلِّ، فأعادَ الرجلُ الصلاةَ ثم جلسَ إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام فقالَ له قُم فصلِّ فإنَّكِ لم تصلِّ فأعادَ الصلاةَ ثم جلسَ فقال له قم فصلِّ فإنك لم تصلِّ فقال الرجلُ: يا رسولَ اللهِ لا أعرفُ غيرَ هذا، فعلَّمه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كيفيةَ الصلاةِ على الوجهِ الصحيحِ ولم يتركْه.
 
وكذلك فقد روى ابنُ حبانَ في صحيحِه أن رجلاً كان يقرأُ القرءانَ ويلحنُ (أي يخطئُ في قراءتِه) فقالَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم (أرشِدُوا أَخاكم) أي علِّموهُ القراءةَ الصحيحةَ، ما قال اترُكوه هو ونيًّته بل أمَر الصحابةَ بأن يعلِّموه.
 
وليُحذر أيها الأحبةُ من قصةٍ مكذوبةٍ مفتراةٍ على دينِ اللهِ وفيها ضلالٌ خطيرٌ وهو أنَّهم يقولونَ إِن سيدَنا الخضرَ عليهِ السلامُ الْتَقَى براعٍ جاهِلٍ فعلّمهُ الخضرُ كيف يُصلي ثم تركَه ومشى على وجهِ الماءِ، فلما قامَ الرجلُ للصلاةِ نسِيَ فتَبِعَ الخضرَ يستَوْقِفُه ليسألَهُ عن كيفيةِ الصلاةِ، فيقولونَ إنَّ الخضِرَ التفَتَ فوجدَهُ قد تبعَهُ ومشى على وجهِ الماءِ فقالَ لهُ صلِّ كما تُريد. على زعمِ هؤلاء فإنَّ هذا الإنسانَ من شدةِ نقاءِ قلبِه وصفاءِ سريرتِه مشى على وجهِ الماءِ، فهذا افتراءٌ وكذبٌ وتشجيعٌ للناسِ للبقاءِ على الجهلِ والعياذُ باللهِ. فاللهُ تعالى لا يتَّخذُ وليًّا جاهلاً كما قال الشافعيُّ رضي الله عنه، والضلالُ في هذه القصةِ المكذوبةِ أن معناها أن نبيًا من الأنبياءِ الذي هو الخضرُ رضِي بالجهلِ وهذا فساد.
 
ثم البليَّةُ العظمى والآفةُ الكبرى أن بعضَ الناسِ يُوردونَ حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمالُ بالنِّياتِ) في الدفاعِ عمن نطقَ بكلمةِ الكفرِ وهذا خروجٌ عن دينِ اللهِ ورضىً بالكفر لأن الحديثَ ليسَ معناه اعمَلوا الشرَّ سُبُّوا اللهَ وسُبُّوا الأنبياءَ واعمَلوا ما شِئتُم من الذنوبِ والمعاصي ليس عليكم ضررٌ طالما نيتُكم حسنةٌ، بل معناهُ أن الإنسانَ إذا أرادَ القيامَ بالأعمالِ الصالحةِ كالصلاةِ والصيامِ والزكاةِ والحجِّ والوضوءِ وغيرِ ذلك من الأعمالِ التي أمرَ اللهُ عبادَه بها فإن أعمالَه هذه لا تكونُ معتبرةً إلا بالنِّيَّةِ، لا تكونُ مقبولةً إلا بالنية.
 
وللأسفِ فإن ذاك المعنى الفاسدَ قد انتشرَ بين كثيرٍ من الناسِ لذلك نراهُم غارِقينَ في الجهلِ بعيدينَ عن تعلُّمِ أمورِ الدين وقد قالَ عليهِ الصلاةُ والسلام فيما رواه ابن حبان (ربَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهر ورُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوعُ والعطش).
 
إخوة الإيمان، هذا هو تفسير السورة بإيجاز، أقسم الله بصلاة العصر أو بالدهر لأن فيه عبرة للناظرين، وأخبرنا بأن الناس في هلكة ونقصان إلا الذين صدّقوا الله ورسوله وأقروا بوحدانية الله، ويوصي بعضهم بعضا بالإلتزام بالقرءان وأداء ما أمرنا به أو انتهاء عمّا نهينا عنه ويوصي بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى.
 
وقد ورد في الأثر لقد كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذهِ السورةَ، وذلكَ لأنَّ هذهِ السورةَ جامعةٌ لما يكونُ بهِ العبدُ ناجيًا مُفلحًا في الآخرةِ.
 
وهنا يناسب أن نذكر ما روي عن الإمام الشافعي أنه قال: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم، وذلك لما فيها من المراتب التي باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله إحداها معرفة الحق، والثانية عمله به، والثالثة تعليمه من لا يحسنه، والرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. اهـ
 
نسأل الله أن يجعل القرءان العظيم ربيع قلوبنا ونورا لأبصارنا، وأن يوحد صفوفنا، هذا وأستغفر الله لي ولكم.