إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قَالَ الله تَعَالَى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) [سُورَةُ الْمُلْكِ].
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، فِي تَفْسِيرِهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) فِيهِ مَسَائِلُ:
مَسْأَلَةٌ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَلَوْ كَانَ اللهُ تَعَالَى حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا لَكَانَ شَيْئًا وَلَكَانَ مَقْدُورًا للهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) وَإِذَا كَانَ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْحَيِّزِ بِقُدْرَةِ اللهِ وَبِإِيجَادِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللهُ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللهِ فِي الْأَزَلِ مُحَقَّقًا مِنْ غَيْرِ حَيِّزٍ وَلَهُ جِهَةٌ أَصْلًا، وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ أَزَلًا وَأَبَدًا.
مَسْأَلَةٌ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ الْمُلْكُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مَالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكَ الْمُلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ إِلَّا قُدْرَةُ اللهِ تَعَالَى، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالطَّبَائِعِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْكُلِّ بِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ، فَلَوْ وَقَعَ شَىْءٌ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا بِقُدْرَةِ اللهِ بَلْ بِشَىْءٍ آخَرَ لَكَانَ ذَلِكَ الْآخَرُ قَدْ مَنَعَ قُدْرَةَ اللهِ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيمَا كَانَ مَقْدُورًا لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَالْقَدِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَادِرِ، فَلَمَّا كَانَ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَلْبَتَّةَ مَانِعٌ عَنْ إِيجَادِ شَىْءٍ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَىْءٌ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْوُجُوبُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّرْكِ، وَأَنْ لَا يَقْبُحَ مِنْهُ شَىْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْقُبْحُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ كَامِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا يَكُونُ قَدِيرًا.