إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ، إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه البخاري في الأدب ومسلم في الصحيح واللفظ له والثلاثة أبو داود، الترمذي، النسائي.
 
هذا الحديث فيه نفي استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب، أما أن ينتفع الميت بعمل غيره فليس ممنوعا بدليل أن الميت ينتفع بدعاء غيره والصدقة عنه ولو من غير ولده، فكذلك ينتفع الميت بدعاء قارىء القرءان إذا قال اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، بإذن الله تعالى.
 
قال النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء (معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف). اهـ
 
الصّدَقةُ الجَارِيةُ كَأن يَبنيَ مَسجِدًا أو مَدرَسةً للعِلم النّافِع أو دَارًا للمُسَافِرينَ يَنـزِلُونَ فيها أو يُجرِيَ نهَرًا أو يَتركَ مُصحَفًا لِيَقرَأ فيه النّاسُ ونحوُ ذلكَ.
 
أمّا العِلمُ الذي فيه التّرغِيبُ في هذا الحديثِ فهو عِلمُ الدّينِ وما يُساعِدُ على ذلكَ كالنّحْوِ والصّرْفِ، الرسولُ عليه السّلام قدَّمَ الصّدقَةَ الجاريَةَ ثم ذَكَر العِلْمَ لا لأنّ الصّدقةَ الجَاريةَ أفضلُ مِنَ العِلم بل العِلمُ أفضَلُ إذا كانَ العِلمُ عِلمَ الدّين، لأنّ عِلمَ الدّينِ حَياةُ الإسلامِ.
 
وأفضَلُ العُلومِ الدّينيةِ التّوحيدُ لأنّ به يُعرَفُ اللهُ، ومعرفةُ اللهِ أساسُ الدِّينِ لا يكونُ الشّخصُ مسلِمًا بدُونِ مَعرِفةِ الله، فمَن لم يَعرفِ اللهَ لا يَنفَعُهُ شَىءٌ مِنَ الأعمَالِ لا الصّلاةُ تَنفَعُه ولا الحجُّ ولا قراءَةُ القُرءانِ، ففي هذا العَصر كثيرٌ منَ النّاسِ ينتَسِبُونَ إلى الإسلامِ ويَظُنُّونَ بأنفُسِهم أنهُم مُسلِمُونَ وليسُوا في الحقيقةِ مسلمينَ، كثيرٌ منهُم يعتَقِدُونَ أنّ اللهَ جِسمٌ، مِنهُم مَن يَعتَقدُ أنّ الله جِسمٌ كَثيفٌ كالإنسانِ، ومِنهُم مَن يَعتقِدُ أنّه جِسمٌ لطِيفٌ كالنُّور أو الرُّوح، هؤلاء ما عَرفُوا اللهَ ، لأنّ الجسمَ اللطِيفَ والكثيفَ مخلُوقٌ والدّليلُ على ذلكَ الآيةُ القُرءانيةُ (الحمدُ للهِ الذي خلَق السّمواتِ والأرضَ وجعَلَ الظُّلُماتِ والنُّور) خَلقَ وجَعَلَ مَعناهُمَا واحِدٌ، معناهُ الله أوجدَ السّمواتِ والأرضَ بعدَ أن كانَا مَعدُومَين ،أَدخَلَهُمَا في الوجُودِ بعدَ العَدم، وأدخَلَ الظُّلماتِ والنُّورَ في الوجُودِ بعدَ أن كانَا مَعدُومَين، قدَّمَ ذِكرَ الظُّلماتِ على النّورِ لتَأكِيد مخلُوقِيّة النّور.
 
الخَلْقُ لهُ كَمٌّ وكَيْفٌ، الكَمُّ معناه مِقدارُ الحجم، الله خَلَق مِنَ الحَجم ما مِقدارُه صَغيرٌ كحَبّةِ الخردَل وخَلَق ما مِقدارُه أكبرُ وهو أكبرُ الأجرَامِ حَجمًا وهو العرشُ وخلَقَ ما بينَهُما من الأحجَام، الله الذي خَلَق المقدَارَ لا يكونُ لهُ مِقدَارٌ.
 
وإلى أولئك الذين يقدسون ابن القيم نقول لهم قال ابن القيم في كتاب الروح (ص/175) (وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم (إذا مات العبد انقطع عمله)، فاستدلال ساقط، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر). اهـ