إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ.
 
قال الإمام بدر الدِين العَينِيّ (ت 855هـ) في عمدة القاري شرح صحيح البخاري ما نَصُّه: عَن عبد اللَّه بن عمر قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُول (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
 
وَبَيَّنَ بِهَذَا الحَدِيث أَنَّ الْمُرَاد بِرَفْع الْعِلم هُنَا قَبْضُ أَهْلِه وهُم الْعلمَاءُ لَا مَحْوُه مِن الصُّدُور، لَكِن بِمَوْت أَهْلِه واتِّخاذِ النَّاسِ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيَحْكُمُون فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى بِرَأْيِهِم وَيُفْتُونَ بِجَهْلِهِم.
 
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ (ت 544هـ) وَقد وُجِدَ ذَلِك فِي زَمَانِنَا كَمَا أخبر بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
 
قَالَ الشَّيْخ قُطْبُ الدِّين (الحلبي ت 735هـ) قُلْتُ هَذَا قَوْلُه مَعَ تَوَفُّر الْعلمَاء فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا؟.
 
قَالَ العَبْد الضَّعِيف (أي بدر الدِّين العينيّ ت 855هـ) هَذَا قَوْله مَعَ كَثْرَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء مِن الْمذَاهب الْأَرْبَعَةِ والْمُحَدِّثِينَ الْكِبَارِ فِي زَمَانِه، فَكَيْفَ بِزَمَانِنا الَّذِي خَلَتِ الْبِلَاد عَنْهُم وَتَصَدَّرَتِ الْجُهَّالُ بالإِفْتَاءِ والتَعَيُّنِ فِي الْمَجَالِس والتَدْرِيسِ فِي الْمَدَارِس! فنَسْأَلُ السَّلامَةَ والعَافِيَةَ. انتهى
 
وهذا الإمامُ بدرُ الدين العينّي الذي يَصِفُ هذه الحالةَ التي وَصَل إليها زمانُه كان قبلَ زَمانِنا بنحو 600 سنة، فكيف بِزَمانِنا الذي فيه:
1ـ أفتَى بعضُ مَن يَدَّعِي العِلمَ الحَقَّ بِزعَمِه بتَرْكِ الإسلام واختيارِ دِينٍ ءاخر.
2ـ وغيرُهم جَعَلوا لله أعضاء وجَوارِحَ ووصفوه بأنه يَتَحَرَّك وأنّه يَجْلِسُ ويَمَلُّ وغيرَ ذلك مِمَّا لا يَجوز على الله وإنما ذلك من صِفات المخلوقات.
3ـ وأحَلَّ أخَرُ شُربَ الخَمر وأكلَ الرِّبا.
4ـ وأخَرُ حَرَّمَ جُلوسَ الأبِ مع ابنتِه وَحْدَهُما.
5ـ وجاهِلٌ غَيرُه أَنْكَرَ فرضيّة سَتْر عَورة المرأة أمام الرِجالِ الأجانِب.
6ـ وأخَرُ يعتبره بعض الناس عالِمًا قال إن إبليس لم يَكْفُر.
7ـ وأخرون قالوا بأنّ التَلَفُّظ بالكُفر لا يُخرِجُ مِن الإسلام إلا مع انشراح الصَدْرِ.
8ـ وغيرُهم مِن الدَجاجِلَة قالوا عن الذي يَصِفُ الله بالجِسْمية ويَسُبُّ اللهَ بأنّه يَبقَى مُسْلِمًا ولا يَنْقَلِبُ كافِرًا، والعِياذُ بالله تَعالَى.
وغير ذلك كثير من الفتاوى الباطلة الفاسدة في هذا الزمانِ التي خَرَجَ بِسَبَبِها كَثِيرٌ مِن الناسِ من الإسلامِ إلى الكُفرِ باتِّباعِهم لهؤلاء الجُهّال على ما هُم علَيه.
 
قال الله تَعالَى ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ فأتباعُ إمام الهُدَى معه وأتباعُ إمامِ الهُدَى يُحْشَرون معَه يوم القِيامة، ولْيُعْلَم أنَّ الجَهْلَ لا يَكونُ لهُم عُذْرًا يوم القِيامة، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالَى حالَ الذين لا يَعْلَمون وهُم يَظُنُّون أنّهم علَى حَقٍّ ويُقَلِّدُون غَيْرَهُم مِن الجاهِلِين كما كان عَبَدَةُ الأوثانِ الْمُشرِكُون يُقَلِّدُون أباءَهُم في عِبادة الأصنام، وقد قال تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا أيَةٌ﴾، وقال تعالى ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال جَلَّ جَلالُه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
 
وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ، والله تعالَى أعلَم.