إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمّا الْمُؤْمِنُ (أَيِ الْكَامِلُ) فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ).
 
الشَّرْحُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ يَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ فَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ لَوْ كَانَ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ قُرْبَ الْجَنَّةِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ الَّذِي يَتَبَوَّؤُهُ فِي الآخِرَةِ فَيَعْرِفُ فَضْلَ الإِسْلامِ حِينَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً.
 
وَمَعْنَى (لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ) أَيْ لا عَرَفْتَ، وَإِنَّمَا قِيلَ وَلا تَلَيْتَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ حَسَنٌ بَسَنٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى ثُمَّ إِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَضْرِبَانِهِ بِهَذِهِ الْمِطْرَقَةِ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ إِلَّا الإِنْسَ وَالْجِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَجَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ.
 
وَلَفْظُ الإِشَارَةِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ (مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ) لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا مَرْئِيًا مُشَاهَدًا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الإِشَارَةُ تُسَمَّى إِشَارَةً لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ.