إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
ورد في سُنَن أبي داود في وَصف هؤلاء الذينَ يَنتَحِلُون البِدَع الضّالّة، بدَع الضّلالة الاعتقاديّة قولهُ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم (تَتَجَارَى بهِم تِلْكَ الأَهْوَاء كَما يَتَجَارَى الكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لا يَبقَى منْهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ) رواه أبو داود والطبرانيّ.
الكَلَبُ هو المرض الذي يُصِيبُ الكَلْبَ المجنُون.
الرَّسولُ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم وصَفَ البِدَع التي ستَحدُث في أُمّتِه بَعدَه بهذا المرض أي بالكَلَب قال (تتَجارَى بهم) أي تلكَ البدَع الاعتقاديّةُ كما يتَجَارَى الكلَبُ بصَاحبِه لا يَبقَى منه عِرقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دخَلهُ.
هؤلاء تَمتَزج حُبُّ هذه العقائدِ البِدْعيّة الكفريّة في نفُوسِهم كما يَمتَزج هذَا الدّاءُ فلا يَبقَى عِرْقٌ ولا مَفصِلٌ مِن الشّخص إلا دخَلَه، هؤلاء كذلكَ تَمتَزج بهم هذه البِدَع الاعتقاديّة تَختَلِطُ بلُحُومِهم ودِمائِهم. أجَارَنا اللهُ مِنَ البِدَع الضّلالَة في الاعتقاد.
البِدَع العمَليّةُ قَد يَخلُص منها الإنسانُ بسُهولةٍ، أمّا البِدَعُ الاعتقاديّةُ فالخَلاصُ مِنها صَعبٌ وهيَ كما وصفَ الرَّسولُ كمَا يَختَلِطُ بالشّخصِ الكَلَبُ يَختَلِطُ بهم هذَا يَمتزِج بهم فيكونُونَ مُولَعِينَ بهذه الضّلالة.
الحاصِلُ أنّه لا يُشتَرطُ أن يَشعُرَ الشّخصُ بأنّهُ ضَلَّ وخَرَج مِنَ الإسلام إنّما العِبرةُ بما في الواقِع.
مَن حَادَ عن القُرءان والحديثِ فوصَلَت بهِ فِتنَتُه إلى أن كَذّب آيةً مِن آياتِ الكتاب العزيز فقَد ضَلّ فلا يلُومَنَّ إلا نَفسَه، إن لم يكن شعَر في هذه الدُّنيا بأنّه خَرَج منَ الإسلام وفارَقَه فإنّه يَشعُر بذلك عندَ الخُروج منَ الدُّنيا.
بعضُ النّاس يقُولونَ كيفَ يَكُونُ الشّخصُ كافرًا وهو يقولُ لا إلهَ إلا اللهُ محمَّد رسولُ اللهِ، فنَحنُ نقُول الشّخصُ تَحجِزُه لا إله إلا الله عن الكفرِ ما دامَ عاملًا بمقتَضاها، أمّا إذا تَرَك العملَ بمقتضَاها فخَرج إلى اعتقادِ ما لا يجُوز على اللهِ كقول هؤلاء إنَّ اللهَ شاءَ للعبادِ أن يكونوا كلّهم سُعَداء فخالَفوا مشيئةَ الله، أي خرجُوا وتمَرَّدوا عن مَشيئةِ الله، ما قالوا عن طَاعة اللهِ، لو قالوا تَمرّدُوا عن طاعة اللهِ فهو الواقع، أمّا قولهم تَمرَّدوا على مشيئَةِ الله فمَعنى ذلكَ أنَّ اللهَ مَغلُوبٌ وأنهم همُ الغَالِبُون، فَرقٌ بينَ أن يُقالَ تَمرَّدوا على طاعةِ اللهِ وبَينَ أن يُقالَ تَمرَّدوا على مشيئةِ الله.
هؤلاء نقُول عنهم اعتقَدوا أنَّ الكُفّارَ تمَرّدوا على مشيئة الله وذلكَ قَولٌ بالمغلُوبيّة في الله تَعالى لأنهم نسَبُوا المغلوبيّةَ إلى الله ومَن نسَب المغلوبيّةَ إلى الله فقَد كفَر.
قولُه تَعالى (وما خَلَقتُ الجِنَّ والإنسَ إلَّا لِيَعبُدُونِ) معناه ما أمَرناهُم بعبادةِ غَيرِنا، الله تَعالى يقول إنه ما أمرَهم بأن يَعبُدوا غيرَه بل أمرَهُم بعبادتِه مُخلصِينَ لهُ لا يُشركوا به شيئًا لهذا الأمرِ خلقَهُم، لهذا التّكلِيف خلَقَهم، ليُكَلّفَهُم بطَاعتِه أي بعبادتِه وَحْدَه وأن لا يُشرَك به شَىء، ويؤدوا الواجبِات ويَجتَنِبوا المحرّمات، خلَقَهُم ليَأمُرَهم بذلك، خلقَهم ليُكلّفَهم بذلك، هذَا معنى الآية. ليس معناه نحنُ ما شِئنا منهم إلا أن يكونوا طائعين فمَن لم يُطِع فقَد خالَف مشيئته تَعالى.