إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ لهُ النّعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيدِنَا مُـحَمَّدٍ وعلى جميعِ إخوانِهِ النّبيينَ.
أما بعدُ، ففي كتابِ المستدركِ للحاكمِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ (حُبّبَ إِلَيَّ مِنْ دنياكُمُ النّساءُ والطيبُ وجُعِلَتْ قرةُ عينِي في الصّلاةِ)، هذا الحديثُ معناهُ قلبِـي يَـمِيلُ من حيثُ الطّبعُ ليسَ من حيثُ التَعُلُّقُ إلى النّساءِ.
(والطيبُ) أي العِطرُ، قالَ (وجُعِلَتْ قُرةُ عينِي في الصّلاةِ) أي أنَّ اللهَ جَعَلَ أعظمَ فرحتِـي ولذتِـي في الصلاةِ، معناهُ ألتذُّ بالصلاةِ أكثرَ من كلّ شىءٍ.
أما حُبُّهُ للنّساءِ هذا حُبٌّ طبيعيٌّ، كذلكَ الطيبُ قلبُهُ لا يَتعلَّقُ بهِ لكنْ يَـمِيلُ، وهكذا كلُّ الأنبياءِ حتى لو كانَ بعضُ الأنبياءِ عندَهُ نِساءٌ كثيرٌ فغرضُهُم تكثيرُ نَسْلِ المسلمينَ ولِـحِكَمٍ أُخرى، غرضُهُم تكثيرُ نَسْلٍ يقاتِلُ الكفارَ في سبيلِ اللهِ كسليمانَ عليهِ السلامُ.
سيدُنا سليمانُ كانَ عندَهُ ألفُ بيتٍ من الزّجاجِ وكانَ عندَهُ ألفُ امرأةٍ، ثلاثُـمائةِ مَهْرِيَّةٍ وسبعُمائةٍ مِلكُ يمينٍ، إِنَّـمَا جمعَ هذا العددَ الكثيرَ وكان في شَرْعِهِ مباحًا، وكان شديدَ التَعَلُّقِ بالجهادِ، أرادَ بهذا أن يَطْلُعَ من صُلْبِهِ شبابٌ كثيرون يقاتلونَ في سبيلِ اللهِ وإلّا هو لا يَتَنَعَّمُ وهكذا كلُّ الأنبياءِ.
كانَ سليمانُ عليه السلامُ يُطعِمُ الناسَ لُبَّ القمحِ الصافِـي، كلّ يومٍ يُطعِمُ مائةَ ألفِ شخصٍ، وأحيانًا ستينَ ألفًا وكانَ يَذبَحُ كلّ يومٍ مائةَ ألفِ شاةٍ، أمَّا هو لنفسِهِ يأكلُ اللبنَ الحامِضَ مع خبز الشعير اليابس.
التّنعُّمُ جائزٌ لكنْ أهلُ اللهِ يَتَرَفَّعُونَ عنهُ، الذي يتركُ التنعمَ يُواسِي غيرَهُ، إذا رأى فقيرًا يواسِيهِ أما الذي يَتَنَعمُ يَـخشَى إن تصدقَ أنْ يذهبَ عليهِ تنعُّمُهُ، لذلكَ الأنبياءُ لا يَتَنَعمونَ حتَّى لا يقتدِيَ بِـهم أمَـمُهُم في ذلكَ.
أما سيدُنَا مُـحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بعدَمَا هاجَرَ عدَّدَ الزوجاتِ، أما قبلَ أن يهاجِرَ ما كانَ تزوّجَ إلّا خديجةَ تزوجَ وعُمُرُهُ خمسةٌ وعِشرون وخديجةُ كانَ عمرُهَا أربعينَ سنةً، كانَتِ امرأةً شريفةً ولبيبةً، هي ذَكَرَتْهُ ورَغِبَتْ بزِواجِهِ ثم بعضُ الناسِ قالَ لَهُ (خديجةُ تَذْكُرُكَ بالزّواجِ) فوافَقَ، ولَـمْ يتزوجْ غيرَهَا إلى أن صارَ عُمُرُهُ خمسينَ، ما تَزوَّجَ غيرَهَا حتى ماتَتْ وكانَ هو أجملَ الناسِ.
ثمّ التعديدُ لأجلِ غرَضٍ دينِـيٍّ وهو أن يُنْشَرَ عِلْمُ الأحكامِ ولا سِيّمَا التي تتعلقُ بالنّساءِ كالحيضِ والنّفاسِ، لأنَّ النّساءَ قد يستحِيْنَ أن يَتَعَلَّمْنَ هذهِ الأحكامَ من الرّجالِ، أمَّا مِنَ النّساءِ فهو سَهْلٌ عليهِنَّ، لأجلِ هذا عَدَّدَ سيدُنَا مُـحَمَّدٌ النّساءَ ليسَ لتعلّقِ قلبِهِ بالنّساءِ، فمَنْ قالَ عن الرّسولِ: “نِسونـجِي” فهو كافرٌ.
ومِـمَّا يدلُّ على أنَّ سيدَنا مُـحَمَّدًا غيرُ مُتَعلِّقِ القلبِ بشهوةِ النساءِ أنَّ عائشةَ كانَتْ أحدثَ نسائِهِ سِنًّا وكانَ في دورِهَا يَـخرُجُ إلى الجَبّانَةِ يدعُو لأهلِهَا، كُلَّمَا كانَ دورُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا هكذَا كانَ يفعلُ.
وكذلكَ امرأةٌ عرضَتْ عليهِ بنتَهَا وصفَتْهَا بالحُسنِ حتَّى قالَتْ إنَّـها لا تعرفُ المرضَ حتى الصُداعَ فقالَ (لا حاجةَ لِي فيهَا) لأنَّ المسلمَ الذي لا تُصِيبُهُ المصائبُ حظُّهُ قليلٌ، أما المسلمُ الذي تَكثُرُ عليهِ المصائبُ هذا أعلى درجةً لذلكَ الأنبياءُ هُم أكثرُ النّاسِ بلاءً.
ءادمُ عليه السلامُ كانَ في الجنّةِ التي لا نَكَدَ فيهَا، ما كانَ يلقَى فيهَا أذًى، لا أذَى حرّ الشّمسِ ولا أذَى البردِ ولا جوعًا ولا عطشًا، ورائحتُهَا طيّبةٌ، ثم أنزلَهُ اللهُ إلى أرضٍ مكشوفةٍ ليسَ فيها بيتٌ لَهُ، ثمّ قاسَى ما قاسَى ثم عَلَّمَهُ اللهُ كيفَ يزرعُ القمْحَ وكيفَ يَـحصُدُ، وعَلَّمَهُ كيفَ يَستَخرِجُ الذهبَ والفضةَ وكيفَ يَعمَلُ منهَا عُملةً، وعَلَّمَهُ أصولَ المعيشةِ.
كذلكَ سيدُنَا نوحٌ بَقِيَ تسعَمائةٍ وخمسينَ سنةً يدعُو قومَهُ للإسلامِ وهم يسُبّونَهُ ويشتمونَهُ وأحيانًا يضرِبونَهُ فيقعُ على الأرضِ مغشيًّا عليهِ، صَبَرَ على هذا مئاتِ السنينَ.
كذلكَ سيدُنَا إبراهيمُ قاسَى ما قاسَى في حياتِهِ.
كذلكَ سيدُنَا مُـحَمَّدٌ ماتَ لَهُ ستةُ أولادٍ في حياتِهِ ثلاثةٌ من الذكورِ ماتُوا وهُم صِغارٌ وثلاثُ بناتٍ مِـتْـنَ في حياتِهِ إلا فاطمةَ، فاطمةُ تأخَّرَتْ عنهُ ستةَ أشهرٍ، ولَقِيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم منْ قومِهِ ما لَقِيَ حتى أخرجُوهُ من بلدِهِ وكانَ في بلدِهِ يُسَبُّ. قبلَ أنْ يدعُوَهُم إلى الإسلامِ كانُوا يُـحبّونَهُ ويُسَمّونَهُ الأمينَ، لَـمْ تُـجَرَّبْ عليهِ كـذْبةٌ (بفتح الكافِ وكسرِها) واحدةٌ، ثُم لَمَّا دَعَاهُم إلى الإسلامِ شَق عليهِم أنْ يَسُبّ دينَهُم، صَعُبَ عليهِم، حتى عشيرتُهُ ومنهُم عمُّهُ أبو لَـهبٍ كان يسبُّهُ ويُؤذيهِ لأنَّهُ طَلَبَ منهُم ترْكَ الكفْرِ إلى عبادةِ اللهِ.
ثم إنَّ أصلَ السّعادةِ معرفةُ اللهِ والإيمانُ بنبيهِ، لا سعادةَ بغيرِ ذلكَ، معرفةُ اللهِ كما يَـجِبُ والإيمانُ برسولِهِ هذا أصلُ السّعادةِ، بهذا ينجُو الإنْسانُ منَ العذابِ الدّائمِ في الآخرةِ وبِـهذا ينالُ الدرجاتِ العُلى.
ثم إنَّ معرفةَ اللهِ ليسَ بِـمجردِ أنْ يقولَ القائلُ (لا إلهَ إلا اللهُ مُـحَمَّدٌ رسولُ اللهِ)، بل معرفةُ اللهِ يَـجِبُ أن تكونَ كمَا يُفهَمُ من هذهِ الآيةِ ﴿ليسَ كمثلِهِ شىءٌ﴾ فهو تباركَ وتعالى موجودٌ ليسَ لوجودِهِ ابتداءٌ، أمَّا غيرُهُ كلُّ أصنافِ العالـمِ ما كانَ موجودًا أوجدَهُ اللهُ.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى ليس ذاتًا كثيفًا ولا لطيفًا، لا يُشبِهُ المخلوقاتِ، قالَ تعالى ﴿ليسَ كمثلِهِ شىءٌ﴾ هذهِ الآيةُ أُمُّ القرءانِ إليهَا تُرَدُ كلُّ الآياتِ المتشابهةِ.
وهذهِ العقيدةُ هيَ التِـي دَعَا إليهَا جميعُ الأنبياءِ والمرسلينَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم أجمعينَ.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى أعلمُ وأحكَمُ.