إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ (وَهُوَ الْقَتْلُ) حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ).
 
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ (لا تَقُومُ السَّاعَةُ) أَيِ الْقِيامَةُ، وَالقِيَامَةُ مُدَّتُهَا خَمْسُونَ أَلف سَنَةٍ وَابْتِدَاؤهَا بِنَفْخِ الْمَلَكِ إِسْرافِيلَ في الصُّورِ فَيَخْرُجُ النَّاسُ مِنَ الْقُبُورِ لِلْحسابِ.
 
وَقَوْلُهُ عليهِ السَّلامُ (حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ) أَيْ يَمُوتَ الْعُلَماءُ وَيَكْثُرَ الْجُهَّالُ كَمَا رَوى الْبُخاري أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ (إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ لَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤسَاءَ جُهَّالاً فَأفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا) وَفي هَذَا الْحَديثِ دَليلٌ عَلى أنَّ الشَّخْصَ إِذَا سَألَ مَنْ هُوَ لَيْسَ أَهْلاً لِلْفَتْوى فأَفْتَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَعَمِلَ بِفَتْواهُ أَنَّ الضَّرَرَ يَحْصُلُ لِلْمُفْتِي وَلِلْمُسْتَفْتِي، وما أكثرهم اليوم.
 
قَالَ الْحَافِظُ النَّوَوِيُّ (لا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَسْتَفْتِيَ إِنْسانًا إِلا إِذا كَانَ ثِقَةً ذَا كَفَاءَةٍ في عِلْمِ الدِّينِ).
 
وَقُولُهُ عليهِ السَّلامُ (وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ) جَمْعُ زَلْزَلَةٍ وَهِيَ حَرَكَةُ الأَرْضِ واضْطِرابُهَا حَتَّى رُبَّمَا يَسْقُطُ الْبِنَاءُ الْقَائِمُ عَلَيْهَا.
 
وَقَوْلُهُ عليهِ السَّلامُ (وَيَتَقارَبَ الزَّمَانُ) أَي فَيَكُونُ الزَّمَنُ الطَّويلُ كَالزَّمَنِ الْقَصيرِ وَهَذَا كَلامٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلمَ في حَديثٍ رَواهُ التِّرمِذِيُّ بِقَوْلِهِ (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمَعَةِ والْجُمُعَة كَالْيَوْمِ والْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ مِنَ النَّارِ) أَيْ كَزَمَانِ إيقَادِ الضَّرمَةِ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُل بَعْدُ.
 
وَقَوْلُهُ عَليهِ السَّلامُ (وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ) أَيْ تَكْثُرَ وَتَشْتَهِرَ، وَأَمَّا مَا جَاءَ في هَذَا الْحَديثِ (وَهُوَ الْقَتْلُ) هَذَا مِنْ كَلامِ الرَّاوِي في تَفْسيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ (وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ).
 
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ (حَتَّى يَكْثُرَ فيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ) وَذَلِكَ لأَنَّهُ إِذَا كَثُرَ الْقَتْلُ قَلَّتِ الرِّجَالُ وَقَلَّتِ الرَّغَبَاتُ في الأَمْوَالِ وَقَصُرَتِ الآمَالُ.
 
وَقَدْ حَصَلَ مُقَدِّمَاتُ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ في هَذَا الْحَديثِ مِنْ كَثْرَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلى حَدٍّ بَعيدٍ.