إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ للهِ وصَلَّى اللهُ على رَسُولِ اللهِ، أما بعدُ، فَقَدْ ثَبَتَ في الحَديثِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ (خَيْرُ الصَّدَقَةِ المَاءُ والمَنِيحَةُ) رواه ابن أبي شيبة.
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ (المَنِيحَةُ) هي الشَّاةُ الَّلبونُ يُعيرُها لِشَخْصٍ حتَّى يَشْرَبَ حليبَها ثُمَّ يَرُدَّها لَهُ،
وَقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ (خَيْرُ الصَّدَقَةِ) مَعْنَاهُ مِنْ أفْضَلِ الصَّدَقَاتِ.
فِي المَاضِي الماءُ كانَ يُبَاعُ لِلحُجَّاجِ يَدُورونَ في المسْجِدِ وهم يَحْمِلونَ القِرْبَةَ التي فيها ماءٌ يَسْقُونَ هَذَا ويأخذونَ مِنهُ شيئًا ويَسْقُونَ هَذَا وَيَأخُذُونَ مِنهُ شيئًا وهكذا يَدُورُونَ على الآلافِ، في تِلكَ الأيامِ الذي يَسْقِي شَخصًا واحِدًا ماءً مِنْ غَيْرِ أنْ يَأخُذَ مِنْهُ أُجْرَةً أجْرُهُ عظيمٌ عِندَ اللهِ لأنَّ الحَرَّ كانَ شديدًا أمَّا الذينَ كانوا يَدُورُونَ لأِجْلِ المالِ فَقَط فَلَيْسَ لهُم أجرٌ إنَّما الَّذي يَتَبرَّعُ هُو الَّذي لَهُ هَذا الأجْرُ العَظِيمُ، الحاجُّ في ذلكَ الوقتِ الماءُ أحبُّ شىءٍ إليهِ فَمَنْ سَقَى وَاحِدًا مِنَ الحُجَّاجِ فَأجرُهُ عظيمٌ عِندَ اللهِ، في المَاضِي كانوا يَحْمِلونَ الماءَ على ظُهورِهِم وَيَبيعُونَهُ هَذا كانَ شُغْلَهُم، حتى لِلْوُضُوءِ في ذلكَ الزَّمَنِ أي مِن نحو خَمْسٍ وعِشْرينَ سَنةً كُنَّا نَشْتَرِي المَاءَ في مَكَّةَ والمَدِينَةِ، لَكِنَّ زُبَيدةَ رَحِمهَا الله وهي امْرَأةُ هَارونَ الرَّشيدِ رَحِمَهُ اللهُ عَمِلَتْ عَمَلاً كبيرًا، أجْرَتِ الماءَ مِنْ أرضٍ بَعيدَةٍ إلى عَرَفَاتَ يُقَالُ لهُ ماءُ زُبَيْدَةَ، لَوْلا هذا الماءُ لَهَلكَ كَثيرٌ منَ الحُجَّاجِ، هي عَمِلَتْ ذلِكَ لِوَجْهِ اللهِ، رَأَتْ مَنَامًا أنَّ كُلَّ النَّاسِ يُجَامِعُونَها، فَقَصَّتْ لِمُعَبِّرٍ عَالِمٍ يَعْرِفُ التَّعْبيرَ فَقَالَ لها تَعْمَلينَ عَمَلاً يَنْتَفِعُ بهِ النَّاسُ فأجْرَتْ هذا المَاءَ مِنْ أرضٍ بَعيدةٍ تَحْتَ الأرْضِ، إلى الآنَ هذا المَاءُ مَوْجودٌ. في المَاضي نِسَاءُ المُلوكِ كُنَّ يَعْمَلْنَ مَبَرَّاتٍ فيها خِدْمَةٌ كبيرَةٌ لِلْمُسْلمينَ، أما اليَوْمَ صارَ التَّنافُسُ بَيْنَهُنَّ في بِنَاءِ القُصُورِ وما أشبهَ ذلِك.
وَمَعنَى مَا جَاءَ في الحَديثِ (رَجُلٌ تصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفاهَا حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما أنْفَقَتْ يَمِينُهُ) أيْ بِحَيثُ لا يرى مَنْ على شِمَالِهِ ما تُنْفِقُ يَدُهُ اليُمْنَى، مَعْنَاهُ يُخْفي إخْفاءً شَديدًا صَدَقَتُهُ لَمَّا يُنَاوِلُ الفقيرَ المُحتاجَ، يُبَالِغُ في الإخْفاءِ بِحَيْثُ لا يَنتَبِهُ مَنْ على يَسَارِهِ حِينَ يُعْطي الصَّدقةَ لِهذا الفقيرِ المحتاجِ، من يُخفي الصَّدَقةَ التي يُنفِقُها من مالٍ حلالٍ قَلَّتْ أوْ كَثُرَتْ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ اللهُ يُظِلُّهُ في ظِلِّ عَرْشِهِ يومَ القِيامَةِ فلا يُصيِبُهُ أذى حَرِّ الشَّمسِ يَوْمَ القِيَامَةِ.