إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي الَّذِي أَلَّفَهُ فِي التَّنْوِيهِ بِأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
 
هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى هُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ بَلْ كَانَ فِيمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَيْ مِنْ بَعْضِ الأَفْرَادِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَالْفَضْلُ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَيْسَ بِالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (سُورَةَ الْحُجُرَات 13).
 
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.
 
وَلا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ (خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ حِبَّانَ فِيهِ الْحُكْمُ عَلَى الأَفْرَادِ، وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ (خَيْرُ الْقُرُونِ) إِلَى ءَاخِرِهِ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَيُقَالُ بِاعْتِبَارِ الإِجْمَالِ الصَّحَابَةُ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لا يَلْحَقُهُ بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَلَى الأَفْرَادِ فَبَعْضُ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ أَقَلُّ دَرَجَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَكَيْفَ يُسَاوَى بَيْنَ صَحَابِيٍّ قَالَ الرَّسُولُ فِيهِ لَمَّا مَاتَ فِي الْغَزْوِ مَعَهُ وَكَانَ مُوَكَّلًا بِثَقَلِ النَّبِيِّ خَادِمًا لَهُ (هُوَ فِي النَّارِ) فَنَظَرُوا فَوَجَدُوا مَعَهُ شَمْلَةً سَرَقَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَبَيْنَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الرَّسُولَ، فَمَا أَشَدَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ.