إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ (مَنْ أَحْيَا سُنَّتي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتي فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ)، مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يَقُومُ بِإِحْيَاءِ شَريعَةِ الرَّسُولِ في الْوَقْتِ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الأُمَّةُ يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الشَّهِيدِ الْمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ، والشَّهيدُ دَرَجَتُهُ عَالِيَةٌ عِنْدَ اللهِ فَقَدْ وَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحيحِ أَنَّ للشَّهِيدِ مِائَةَ دَرَجَةٍ في الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ والدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ.
وَالسُّنَّةُ في كَلامِ الرَّسُولِ مَعْنَاهَا الشَّرِيعَةُ الَّتي هِيَ الْعَقِيدَةُ والأَحْكَامِ وَلَيْسَ مَعْنَاهَا الشَّىْءَ الَّذي في فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَيْسَ في تَرْكِهِ عِقَابٌ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانيَ هُوَ اصْطِلاحُ الْفُقَهَاءِ، وَمَعْنَى (أَحيَا سُنَّتي) قَامَ بِتَعَلُّمِ وَتَعْلِيمِ الْعَقيدَةِ وَالأَحْكَامِ الضَّرُورِيَّةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِجِدٍّ وَهَذَا الَّذي يُسَمَّى جِهَادَ الْبَيَانِ وَهُوَ الآنَ أَفْضَلُ الْجِهَادِ لأَنَّهُ الْجِهَادُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، فَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الآنَ هُوَ تَعَلُّمُ وَتَعْلِيمُ الإيْمَانِ لأَنَّ الأُمَّةَ قَدْ فَسَدَتْ وَقَلَّ مَنْ يُعَلِّمُ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ والْجَمَاعَةِ وَيُدَافِعُ عَنْهَا في هَذَا الزَّمَنِ حَتَّى صَارَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْيَتِيمِ الَّذي لا كَافِلَ لَهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ في زَمَانِنَا مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الأَمْرُ في حَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَفي الدُّنْيَا، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالْسَّلام (إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُم) صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، مَعْنَاهُ إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ يَصِيرُ الْخَيْرُ في الدُّنْيَا قَلِيلاً، وَالشَّامُ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْعَرِيشِ إِلى بَالِس في جِهَةِ الْعِرَاقِ فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ الأُرْدُنُّ وَسُورِيَّا وَلْبْنَانُ وَفِلَسْطِين، وَأَهْلُ الشَّامِ فِيهِمُ الآن مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ حَالٌّ في كُلِّ شَىْءِ، وَهَؤُلاءِ مِنْ أَكْفَرِ الْكُفَّارِ، هَؤُلاءِ يَقُولُونَ اللهُ دَاخِلٌ في كُلِّ شَىْءٍ.
الْيَوْمَ كَثُرَتْ فِرَقُ الضَّلالِ وَتَحَقَّقَ مَا جَاءَ في كَلامِ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عليهِ وسلَّم حَيْثُ قَالَ (بَدَأَ الدِّينُ غَريبًا وَسَيَعْودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبى لِلْغُرَبَاءِ) قِيلَ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ (الَّذينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي) مَعْنَاهُ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِجِدٍّ الَّذينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمَعْنَى أَهْلِ السُّنَّةِ والْجَمَاعَةِ الَّذينَ يَتْبَعُونَ الشَّرِيعَةَ الَّتي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ، (وَالْجَمَاعَةِ) مَعْنَاهَا الْجُمْهُورُ الغَالِبُ أَيِ السَّوادُ الأَعْظَمُ وَهُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الَّذينَ سَمَّاهُمُ الرَّسُولُ في حَدِيثِهِ فقالَ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِلى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى إِلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتي إِلى ثَلاثٍ وَسَبْعينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ في النَّارِ إِلا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابي) وفي رِوَايَةٍ (وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) وفي رِوَايَةٍ (وَهِيَ السَّوادُ الأَعْظَمُ) أَيِ الْجُمْهُورُ الْغَالِبُ، وَالْيَوْمَ تَجَاوَزَ تَعْدَادُ الْمُسْلِمِينَ في الأَرْضِ الْمِلْيارَ وَهَؤُلاءِ غَالِبُهُمُ الأَشَاعِرَةُ والماتُريديَّةُ، الأَشَاعِرَةُ نِسْبَةٌ إِلى إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلى إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيّ، فَهَذَانِ الإمَامَانِ رَتَّبَا الْعَقِيدَةَ الَّتي كَانَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ والصَّحَابَةُ وَنَصَبَا الأَدِلَّةَ عَلَيْهَا فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ في الأَرْضِ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمَا فَمَنْ قَامَ في هَذَا الزَّمَنِ بِنُصْرَةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والدِّفَاعِ عَنْهَا وَرَدِّ شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ بِالأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ فَقَدْ قَامَ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَفَرْضٍ مِنْ أَفْرَضِ الْفُرُوضِ وَيَكُونُ دَاخِلاً تَحْتَ الْبِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ في الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا وَمَنْ قَصَّرَ في ذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ فَقَدْ بآءَ بِإثْمٍ كَبِيرٍ.