إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ و آلِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ و الصالحينَ.
 
مَنْ أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى أَيْ تَرْكِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَخْلُدُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ وَمَآلُهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَالَ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ.
 
يَعْنِي الَّذِي أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ وَهُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجْتَنَبَ الْكُفْرَ هَذَا إِنْ مَاتَ لا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا مَهْمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ وَلا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَاقَبَ بِذُنُوبِهِ الَّتِي كَانَ اقْتَرَفَهَا، هَذَا إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، فَحُكْمُ الْمُسْلِمِ الْعَاصِي الَّذِي مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ إِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّهُ ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
 
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيـمَانٍ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَيْ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيـمَانٍ أَيْ أَقَلُّ الإِيـمَانِ لا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ، وَالذَّرُّ هُوَ الَّذِي مِثْلُ الْغُبَارِ يُرَى لَمَّا يَدْخُلُ نُورُ الشَّمْسِ مِنَ الْكَوَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّمْلِ الأَحْمَرِ الصَّغِيرِ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُفْرَدَ قُلْتَ ذَرَّةٌ وَيُقَالُ لِلْجَمْعِ ذَرٌّ.
 
وَأَمَّا الَّذِي قَامَ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَهُ وَقَامَ بِأَوَامِرِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّهَ بِلا عَذَابٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الْخَالِدُ، يَعْنِي الَّذِي ءَامَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَزَّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ التَّقِيُّ الَّذِي مَآلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لا يَلْقَى جُوعًا وَلا عَطَشًا وَلا نَكَدًا فِي الْقَبْرِ وَلا فِي الآخِرَةِ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ، فَيَكُونُ مَأْوَاهُ الَّذِي لا يَخْرُجُ مِنْهُ بِدِلالَةِ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة 17] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أَيْ شَىْءٌ تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ أَيْ تَفْرَحُ بِهِ مِمَّا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلائِكَتَهُ وَلا أَنْبِيَائَهُ، فَالنَّعِيمُ الْخَاصُّ الْمُعَدُّ لِلصَّالِحِينَ لَمْ يَرَهُ الرَّسُولُ وَلا الْمَلائِكَةُ وَلا خُزَّانُ الْجَنَّةِ الْمُوَظَّفُونَ هُنَاكَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الآيَةُ بِهَذَا الَّذِي جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ.