إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
رؤية الله في الآخرة
قال الشيخ محمد حسنين مخلوف المالكي مفتي الديار الـمصرية (ت 1355 هـ) ما نصه (فَيُرَى سبحانه لا في مكانٍ ولا جهةٍ ولا باتصال شعاعٍ ولا ثبوت مسافةٍ بين الرائيين وبينه تعالى بل على الوجه الذي يليق بقدسيته وجلاله سبحانه) مختصر شرح عقيدة أهل الإسلام (ص 27).
يَجِبُ الإِيـمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِأَنَّهَا حَقٌّ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ (لَكِنْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ لا يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْجَنَّةِ إِنَّمَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَطْ) يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَهُ فِي كِتَابِهِ الْوَصِيَّةِ وَذَكَرَهُ مُلَّا عَلِي الْقَارِي فِي شَرْحِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ)، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ إِنَّمَا هُمْ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُهُ كَمَا لا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ، فَفِي ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْ لا تَتَزَاحَمُونَ فِي رُؤْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ (لا تُضَامُونَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَيْ لا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ، شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا لَهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجُهَّالِ فَإِنَّهُمْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعَوَامِّ بِذَلِكَ، الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ التَّوْحِيدَ إِذَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهذا كفرٌ.
واعلم أنّ الله تعالى قال (ليس كمثلِه شىء) سورة الشورى 11، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة، فلا يحتاج إلى مكان يحُل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها، بل الأمر كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) رواه أبو منصور البغدادي، وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث، ومعْنى مُخالفةِ الله للحوادِثِ أنّه لا يُشْبِهُ المخْلُوقاتِ، وهذِه الصِّفةُ من الصِّفاتِ السّلْبِيّةِ الخمْسةِ أي التي تدُلُّ على نفْي ما لا يلِيْقُ بالله.
والدّلِيْلُ العقْلِيُّ على ذلِك أنّهُ لو كان يُشْبِهُ شيْئًا مِنْ خلْقِه لجاز عليْهِ ما يجُوزُ على الخلْق مِن التّغيُّرِ والتّطوُّرِ، ولو جاز عليْهِ ذلِك لاحْتاج إلى منْ يُغيّرُهُ والمُحْتاجُ إلى غيْرِه لا يكُونُ إِلهًا، فثبت لهُ أنّهُ لا يُشْبِهُ شيئًا.
والبُرْهانُ النّقْلِيُّ لِوُجُوْبِ مُخالفتِهِ تعالى لِلْحوادِثِ قوله تعالى (ليس كمثله شىء) وهُو أوْضحُ دلِيْلٍ نقْلِيّ في ذلِك جاء في القُرءانِ، لأنّ هذِهِ الآية تُفْهِمُ التّنْزِيْه الكُلِّيّ لأنّ الله تبارك وتعالى ذكر فِيْها لفْظ شىءٍ في سِياقِ النّفْي، والنّكِرةُ إِذا أُوْرِدت في سِياقِ النّفْي فهِي للشُّمُوْلِ، فالله تبارك وتعالى نفى بِهذِهِ الجُمْلةِ عنْ نفْسِهِ مُشابهة الأجْرامِ والأجْسامِ والأعراضِ، فهُو تبارك وتعالى كما لا يُشْبِهُ ذوِي الأرواحِ مِنْ إِنسٍ وجِنّ وملائِكةٍ وغيْرِهِم، لا يُشْبِهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلْوِيّةِ والسُّفْلِيّةِ أيضًا، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفْي الشّبهِ عنْهُ بنوْعٍ منْ أنْواعِ الحوادِثِ، بل شمل نفْيُ مُشابهتِهِ لِكُلّ أفْرادِ الحادِثاتِ، ويشْملُ نفْيُ مُشابهةِ الله لخلْقِه تنْزِيْهه تعالى عن المكان والجهة والكميّة والكيْفِيّةِ، فالكمّيّةُ هِي مِقْدارُ الجِرمِ، فهُو تبارك وتعالى ليْس كالجِرمِ الذي يدْخُلُهُ المِقْدارُ والمِساحةُ والحدُّ، فهُو ليْس بِمحْدُودٍ ذِي مِقْدارٍ ومسافةٍ.
فلو كان الله فوق العرشِ بذاتِهِ كما يقولُ المشبِّهةُ لكان محاذيًا للعرشِ، ومِنْ ضرورةِ المُحاذِي أنْ يكون أكبر مِن المحاذى أو أصغر أو مثله، وأنّ هذا ومثله إنما يكونُ في الأجسامِ التي تقبلُ المِقدار والمساحة والحدّ، وهذا مُحالٌ على الله تعالى، وما أدّى إلى المُحالِ فهو محالٌ، وبطل قولُهُم إن الله متحيّزٌ فوق العرشِ بذاتهِ. ومنْ قال في الله تعالى إِنّ لهُ حدًّا فقدْ شبّههُ بخلْقِهِ لأنّ ذلِك يُنافي الألُوهِيّة، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ لاحتاج إِلى منْ جعلهُ بذلِك الحدّ والمِقْدارِ كما تحتاجُ الأجْرامُ إِلى منْ جعلها بحدُوْدِها ومقادِيْرِها لأنّ الشّىء لا يخْلُقُ نفْسه بمِقْدارِه، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ كالأجْرامِ لاحْتاج إلى منْ جعلهُ بذلك الحدّ لأنّه لا يصِحُّ في العقْلِ أنْ يكُون هُو جعل نفْسه بذلِك الحدّ، والمُحْتاجُ إِلى غيْرِهِ لا يكُونُ إِلهًا، لأنّ مِنْ شرْطِ الإلهِ الاسْتِغْناء عنْ كُلّ شىءٍ.