إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
سُورَةُ النَّازِعَاتِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِىَ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ (10) أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى (26) ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46).
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الَّتِى يَذْكُرُهَا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾، النَّازِعَاتُ هِىَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ وَغَرْقًا أَيْ نَزْعًا بِشِدَّةٍ.
﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ أَىِ الْمَلائِكَةُ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ بِقَبْضِهَا أَىْ تَسُلُّهَا بِرِفْقٍ.
﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ هِىَ الْمَلائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِى الآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَجِىءُ وَتَذْهَبُ.
﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾ هِىَ الْمَلائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ هُمُ الْمَلائِكَةُ يُدَبِّرُونَ أُمُورَ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمٰنِ إِنَاثًا﴾ (سُورَةَ الزُّخْرُف 19) وَالْمُرَادُ الأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّزْعِ وَالأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّشْطِ وَالسَّبْحُ وَالتَّدْبِيرُ وَهَذَا الْقَدْرُ لا يَقْتَضِى التَّأْنِيث، وَمِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَجَوَابُ مَا عُقِدَ لَهُ الْقَسَمُ مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ أُظْهِرَ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُحَاسَبُنَّ فَاسْتَغْنَى أَىِ اللَّهُ تَعَالَى بِفَحْوَى الْكَلامِ وَفَهْمِ السَّامِعِ عَنْ إِظْهَارِهِ، قَالَ الشَّعْبِىُّ الْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَالْمَخْلُوقُ لا يُقْسِمُ إِلَّا بِالْخَالِقِ وَاللَّهُ أَقْسَمَ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ لِيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعُظْمِ شَأْنِهَا عِنْدَهُمْ وَلِدِلالَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَلَتَنْبِيهِ عِبَادِهِ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لَهُمْ كَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى فَتْحِ الْبَارِى (قَالَ الشَّافِعِىُّ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَعْصِيَةً وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْكَرَاهَةِ وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنِ اعْتَقَدَ فِى الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِى اللَّهِ حَرُمَ الْحَلِفُ بِهِ وَكَانَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ كَافِرًا وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يُرِيدُ حَدِيثَ التِّرْمِذِىِّ (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْر اللَّهِ لِاعْتِقَادِهِ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ فَلا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ).
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ الرَّاجِفَةُ هِىَ النَّفْخَةُ الأُولَى قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبِهَا تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ.
﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ الرَّادِفَةُ هِىَ النَّفْخَةُ الثَّانِيةُ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّفْخَتَانِ هُمَا الصَّيْحَتَانِ أَمَّا الأُولَى فَتُمِيتُ كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا الثَّانِيةُ فَتَتْبَعُ الأُولَى وَتُحْيِى كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ هِىَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ تَكُونُ شَدِيدَةَ الْخَوْفِ وَالِاضْطِرَابِ مِنَ الْفَزَعِ.
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ أَىْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقُلُوبِ ذَلِيلَةٌ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى.
﴿يَقُولُونَ﴾ أَىْ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ وَالأَبْصَارِ اسْتِهْزَاءً وَإِنْكَارًا لِلْبَعْثِ.
﴿أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُونَ أَنُرَدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ أَىْ فِى الْقُبُورِ قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ لِحُصُولِهِ
﴿أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً﴾ أَىْ عِظَامًا بَالِيَةً مُتَفَتِّتَةً قَالَهُ الْقُرْطُبِىُّ وَمُرَادُ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ هُوَ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا مُتَفَتِّتَةً بَالِيَةً نُحْيَا إِنْكَارًا وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (نَاخِرَةً) قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِى اللُّغَةِ.
﴿قَالُوا تِلْكَ﴾ أَىْ قَالَ الْكُفَّارُ تِلْكَ أَىْ رَجْعَتُنَا إِلَى الْحَيَاةِ.
﴿إِذًا﴾ أَىْ إِنْ رُدِدْنَا.
﴿كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ أَىْ نَحْنُ خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا بِهَا قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ أَىْ عَلَى زَعْمِهِمْ لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَتْ رَدَّتُنَا خَاسِرَةً إِذْ هِىَ إِلَى النَّارِ.
﴿فَإِنَّمَا هِىَ﴾ أَىِ الرَّادِفَةُ وَهِىَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِى يَعْقُبُهَا الْبَعْثُ.
﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أَىْ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ يَحْيَا بِهَا الْجَمِيعُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ قَالَهُ الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ سُهُولَةَ الْبَعْثِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا صَعْبًا عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ﴿أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ﴾ يَتَضَمَّنُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَاسْتِصْعَابَ أَمْرِهَا فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ.
﴿فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾ أَىْ فَإِذَا الْخَلائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِى بَطْنِهَا أَمْوَاتًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ (تُبَدَّلُ الأَرْضُ أَرْضًا كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ)، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِى الشُّعَبِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ قاَلَ الْقُرْطُبِىُّ وَغَيْرُهُ قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَلَغَكَ قِصَّةُ مُوسَى وَتَمَرُّدُ فِرْعَوْنَ وَمَا ءَالَ إِلَيْهِ حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْهَلاكِ وَفِى ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْشِيرٌ بِنَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَهَلاكِهِمْ.
﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ قَالَ الْحَسَنُ هُوَ وَادٍ بِفِلَسْطِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاسْمُهُ طُوَى، وَالْمُقَدَّسُ أَىِ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ.
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أَىْ أَنَّ فِرْعَوْنَ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِى الْكُفْرِ.
﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ أَىْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ وَتَعْمَلَ خَيْرًا وَتَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرَ مِنَ الرَّذَائِلِ.
﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ أَىْ أُرْشِدَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ فَتَخَافَهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُؤَدِّىَ الْوَاجِبَاتِ وَتَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِى الآيَةِ دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ بِاللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمَلِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ أَوَّلًا وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا.
﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى﴾ أَىْ فَذَهَبَ مُوسَى وَبَلَّغَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ فَطَلَبَ فِرْعَوْنُ ءَايَةً فَأَرَاهُ أَىْ مُوسَى الآيَةَ الْكُبْرَى أَىِ الْعَلامَةَ الْعُظْمَى، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِى تَعَالِيقِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ (الآيَةُ الْكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ).
﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ أَىْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى وَعَصَى اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِيمَا أَتَى بِهِ.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ أَىْ فِرْعَوْنُ وَلَّى مُدْبِرًا مُعْرِضًا عَنِ الإِيمَانِ ﴿يَسْعَى﴾ أَىْ يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِى الأَرْضِ وَيَجْتَهِدُ فِى نِكَايَةِ أَمْرِ مُوسَى.
﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ أَىْ جَمَعَ السَّحَرَةَ لِلْمُعَارَضَةِ وَجُنُودَهُ وَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا وَقَالَ لَهُمْ بِصَوْتٍ عَالٍ.
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ يُرِيدُ فِرْعَوْنُ لا رَبَّ لَكُمْ فَوْقِى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾ أَىْ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا هُوَ عِبْرَةٌ لِمَنْ رَءَاهُ أَوْ سَمِعَهُ وَعَاقَبَهُ عَلَى كَلِمَتِهِ الأُولَى وَهِىَ قَوْلُهُ ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى﴾ وَكَلِمَتِهِ الآخِرَةِ وَهِىَ قَوْلُهُ ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ وَكَانَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُ بِالْغَرَقِ فِى الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ يُعَذَّبُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ.
﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى﴾ أَىْ أَنَّ الَّذِى جَرَى لِفِرْعَوْنَ فِيهِ عِظَةٌ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ يُرِيدُ اللَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْكَلامُ يَجْرِى مَجْرَى التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالِاسْتِدْلالِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ ضَعْفِ الإِنْسَانِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ فِى تَقْدِيرِكُمْ مَعَ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ دَيْمُومِيَّةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأَثُّرِهَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ فَنِسْبَةُ الأَمْرَيْنِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَامَّةٌ لا يَلْحَقُهَا عَجْزٌ وَلا نَقْصٌ، ثُمَّ يَصِفُ اللَّهُ السَّمَاءَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِى جَعَلَهَا فَوْقَنَا كَالْبِنَاءِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِقْدَارَ ذَهَابِهَا فِى الْعُلُوِّ مَدِيدًا رَفِيعًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَكَذَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ إِلَى سَبْعِ سَمَوَاتٍ، وَالسَّمْكُ هُوَ الِارْتِفَاعُ الَّذِى بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ الَّذِى يَلِينَا وَسَطْحِهَا الَّذِى يَلِي مَا فَوْقَهَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ أَبُو حَيَّانَ فِى تَفْسِيرِهِ النَّهْرِ الْمَادِّ. وَمَعْنَى (فَسَوَّاهَا) أَىْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً بِلا عَيْبٍ لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفَعٌ وَلا مُنْخَفَضٌ مُحْكَمَةَ الصُّنْعَةِ مُتْقَنَةَ الإِنْشَاءِ.
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أَغْطَشَ لَيْلَهَا أَىْ أَظْلَمَ لَيْلَهَا، وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا أَىْ أَبْرَزَ نَهَارَهَا وَضَوْءَ شَمْسِهَا، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ فِى السَّمَاءِ سَبَبَ الظَّلامِ وَالضِّيَاءِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا قَالَهُ الْقُرْطُبِىُّ.
﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ثُمَّ دَحَا اللَّهُ الأَرْضَ أَىْ بَسَطَهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ أَىْ أَخْرَجَ مِنَ الأَرْضِ الْعُيُونَ الْمُتَفَجِّرَةَ بِالْمَاءِ وَالنَّبَاتَ الَّذِى يُرْعَى.
﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أَىْ أَثْبَتَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ لِتَسْكُنَ.
﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَمَوَاشِيكُمْ، وَالأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَهُ النَّوَوِىُّ فِى تَحْرِيرِ أَلْفَاظِ التَّنْبِيهِ.
﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ قَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِيُسْتَدَلَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلًا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ قَالَ الْمُبَرِّدُ الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِى لا تُسْتَطَاعُ وَالْمُرَادُ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَظَّمَهُ اللَّهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى﴾ أَىْ ذَاكَ الْيَوْم يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا عَمِلَهُ فِى الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يَرَاهُ مُدَوَّنًا فِى صَحِيفَتِهِ وَكَانَ قَدْ نَسِيَهُ مِنْ فَرْطِ الْغَفْلَةِ أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ.
﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ أَىْ أُظْهِرَتْ جَهَنَّمُ يَرَاهَا تَتَلَظَّى كُلُّ ذِى بَصَرٍ فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ اللَّهِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذ (لِمَنْ رَأَى) بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالأَلِفِ.
﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى﴾ أَىْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِى الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرِ.
﴿وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أَىِ انْهَمَكَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَتَرْكِ الِاسْتِعْدَادِ لِلآخِرَةِ.
﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى﴾ أَىْ أَنَّ جَهَنَّمَ هِىَ مَأْوَى مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أَىْ حَذِرَ مَقَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ.
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ أَىْ زَجَرَهَا عَنِ الْمَعَاصِى وَالْمُحَرَّمَاتِ.
﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى﴾ أَىْ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ مَنْزِلَهُ الْجَنَّةُ.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أَىْ يَسْأَلُكَ كُفَّارُ مَكَّةَ مَتَى وُقُوعُ السَّاعَةِ وَزَمَانُهَا اسْتِهْزَاءً.
﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ أَىْ فِيمَ يَسْأَلُكَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا وَلَسْتَ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى تَذْكُرَهَا لَهُمْ وَفِيهِ إِنْكَارٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِى مَسْأَلَتِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ أَىْ إِلَى اللَّهِ مُنْتَهَى عِلْمِ السَّاعَةِ فَلا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ عِلْمُ وَقْتِهَا وَزَمَنِهَا قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (سُورَةَ لُقْمَان 34).
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ أَىْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِإِنْذَارِكَ يَا مُحَمَّدُ وَتَخْوِيفِكَ مَنْ يَخَافُ هَوْلَهَا فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ.
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً﴾ أَىْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ يَرَوْنَ الآخِرَةَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِى الدُّنْيَا إِلَّا قَدْرَ عَشِيَّةٍ وَالْعَشِيَّةُ مَنْ صَلاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ قَالَهُ الرَّازِىُّ فِى مُخْتَارِ الصَّحَاحِ.
﴿أَوْ ضُحَاهَا﴾ وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ قَالَهُ الْحَافِظُ اللُّغَوِىُّ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدُّنْيَا ذَاكَ الْوَقْتَ تَتَصَاغَرُ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَتَقِلُّ فِى أَعْيُنِهِمْ.