إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

سُورَةُ عَبَسَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِىَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم

 

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِى سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

 

أَخْرَجَ التِّرْمِذِىُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ فِى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى.

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ عَبَسَ أَىْ قَطَبَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَالَهُ الزَّبِيدِىُّ. وَتَوَلَّى أَىْ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ قَالَ الْقَسْطَلانِىُّ فِى شَرْحِ الْبُخَارِىِّ وَغَيْرُهُ لِأَجْلِ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُولٌ بِذَلِكَ أَىْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ وَقَدْ قَوِىَ طَمَعُهُ فِى إِسْلامِهِمْ وَكَانَ فِى إِسْلامِهِمْ إِسْلامُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَالَهُ الْقُرْطُبِىُّ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ قَطْعَهُ لِكَلامِهِ فَعَبَسَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعُوتِبَ فِى ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنَاجِيهِمْ فِى أَمْرِ الإِسْلامِ هُمْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ وَأُبَىُّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ عَلَى خِلافٍ فِى بَعْضِهِمْ، وَجَاءَ لَفْظُ الأَعْمَى إِشْعَارًا بِعُذْرِهِ فِى الإِقْدَامِ عَلَى قَطْعِ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ لِلْقَوْمِ وَلِلدِّلالَةِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ لِمَا يَقْصِدُهُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الثَّوْرِىُّ فَكَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَبْسُطُ لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ (مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِى فِيهِ رَبِّى) وَيَقُولُ لَهُ (هَلْ مِنْ حَاجَةٍ)، وَاسْتَخْلَفَهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صَلاةِ النَّاسِ فِى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِى غَزْوَتَيْنِ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ بِلالٍ وَغَيْرِهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

 

﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ أَىْ مَا الَّذِى يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِهِ لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ مِنَ الآثَامِ بِمَا يَتَلَقَّفُ مِنْكَ، قَالَ الْبَيْضَاوِىُّ وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لِتَزْكِيَةِ غَيْرِهِ.

 

﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ أَىْ أَوْ يَتَّعِظُ بِمَا يَتَعَلَّمُهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ مَوْعِظَتِكَ فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ.

 

﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ قَالَ بَعْضٌ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى قَالَ الرَّازِي فِى تَفْسِيرِهِ (وَهُوَ فَاسِدٌ هَهُنَا لِأَنَّ إِقْبَالَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ) ثُمَّ قَالَ الْمَعْنَى مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيمَانِ وَالْقُرْءَانِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ وَرُوِي عَنْ عَطَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَالْمُرَادُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِى شَأْنِ الإِسْلامِ ثُمَّ قُتِلُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ يَوْمَ بَدْرٍ أَمَّا أُبَىُّ بنُ خَلَفٍ فَقَدْ رَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرْبَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ.

 

﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ أَىْ تَتَعَرَّضُ لَهُ بِالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ.

 

﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ أَىِ الْكَافِرُ وَهَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْكُفَّارِ وَالْمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ فِى أَنْ لا يَتَزَكَّى بِالإِسْلامِ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَيْهِ إِذِ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَبَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ الأَمْرُ بِالْقِتَالِ.

 

﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ أَىْ يَأْتِيكَ مُسْرِعًا طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالْعِلْمِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

 

﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ أَىْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

 

﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ أَىْ تَتَشَاغَلُ.

 

﴿كَلَّا﴾ أَىْ لا تَفْعَلْ بَعْدَهَا مِثْلَهَا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَلا صَغِيرَةً وَمَنْ قَالَ هُوَ صَغِيرَةٌ فَقَدْ أَخْطَأَ.

 

﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ أَىْ أَنَّ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ مَوْعِظَةٌ وَتَبْصِرَةٌ لِلْخَلْقِ.

 

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أَىْ فَمَنْ شَاءَ حَفِظَ الْقُرْءَانَ وَاتَّعَظَ بِهِ.

 

﴿فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾ أَىْ أَنَّ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِى هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ وَالصُّحُفُ جَمْعُ صَحِيفَةٍ قَالَ الرَّازِىُّ وَالنَّسَفِىُّ إِنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ.

 

﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾ أَىْ مَرْفُوعَةُ الْقَدْرِ مَحْفُوظَةٌ مِنَ الدَّنَسِ لا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ.

 

﴿بِأَيْدِى سَفَرَةٍ﴾ أَىْ هَذِهِ الصُّحُفُ الْمُكَرَّمَةُ الْمَرْفُوعَةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَيْدِى الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلائِكَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.

 

﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ أَىْ هُمْ كِرَامٌ أَعِزَّاءُ عَلَى رَبِّهِمْ بَرَرَةٌ مُطِيعُونَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ.

 

﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ قَالَ نَزَلَتْ فِى عُتْبَةَ بنِ أَبِي لَهَبٍ حِينَ قَالَ كَفَرْتُ بِرَبِّ النَّجْمِ وَمَعْنَى الآيَةِ لُعِنَ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ﴾ الدُّعَاءُ وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّمُّ الْبَلِيغُ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ظَاهِرُهُ التَّعَجُّبُ وَهُوَ لا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ تَعْجِيبُ كُلِّ سَامِعٍ لِأَنَّ مُبَالَغَةَ الْكُفَّارِ فِى الْكُفْرَانِ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ لُعِنَ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ وَاللَّعْنُ مَعْنَاهُ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ وَالْعَجَبُ وَالتَّعَجُّبُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّىْءِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءُ الْعَجَبُ مَا لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَلِهَذَا قِيلَ لا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ التَّعَجُّبُ إِذْ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ قَالَهُ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِىُّ وَغَيْرُهُ.

 

﴿مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ﴾ أَىْ لِمَ يَتَكَبَّرُ هَذَا الْكَافِرُ أَلَمْ يَرَ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خُلِقَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ.

 

﴿مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَملِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ) هَذَا طَرَفُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالنُّطْفَةُ الْمَنِىُّ الْمَخْلُوقُ مِنْهُ الْبَشَرُ، وَالْعَلَقَةُ الْمَنِىُّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ طَوْرِهِ فَيَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ طَوْرًا ءَاخَرَ فَيَصِيرُ لَحْمًا وَهُوَ الْمُضْغَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ قَالَهُ الْفَيُّومِىُّ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّكَبُّرَ وَالتَّجَبُّرَ لا يَلِيقَانِ بِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً. وَمَعْنَى فَقَدَّرَهُ أَىْ فَقَدَّرَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ أَتَمَّ خِلْقَتَهُ قَدَّرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِرَ أَعْضَائِهِ وَحَسَنًا أَوْ دَمِيمًا وَقَصِيرًا أَوْ طَوِيلًا وَشَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا.

 

﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَهَّلَ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِأَنْ جَعَلَ فُوَّهَةً لِلرَّحِمِ وَأَلْهَمَهُ إِذَا قَرُبَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَنْ يَتَنَكَّسَ فَيَصِيرَ رَأْسُهُ مِنْ جِهَةِ الأَسْفَلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الأَعْلَى. فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ وَقِيلَ سَهَّلَ لَهُ الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ.

 

﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَتَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ.

 

﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ أَىْ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْبَعْثِ وَوَقْتُ النُّشُورِ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

 

﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ كَلِمَةُ (كَلَّا) هِىَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِلْكَافِرِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَالْكَافِرُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ.

 

﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ أَىْ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ طَعَامَهُ وَلْيَنْظُرْ إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَالْمُرَادُ نَظَرُ اعْتِبَارٍ وَهُوَ نَظَرُ الْقَلْبِ مُتَدَبِّرًا مُتَفَكِّرًا فِى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

 

﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ أَىِ الْغَيْثَ وَالْمَطَرَ يَنْسَكِبُ مِنَ السَّحَابِ.

 

﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا﴾ أَىْ بِالنَّبَاتِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ الأَرْضَ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا.

 

﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾  (فِيهَا) أَىْ فِى الأَرْضِ يُنْبِتُ اللَّهُ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِى يُتَغَذَّى بِهَا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ.

 

﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ الْعِنَبُ مَعْرُوفٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقَضْبُ هُوَ الرُّطَبُ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ أَىْ يُقْطَعُ.

 

﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا﴾ الزَّيْتُونُ وَالنَّخْلُ مَعْرُوفَانِ.

 

﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ أَىْ بَسَاتِينُ كَثِيرَةُ الأَشْجَارِ، وَالْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ يَكُونُ عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَالْغُلْبُ الْغِلاظُ الأَعْنَاقِ وَقَالَ الزَّجَاجُ هِىَ الْمُتَكَاثِفَةُ الْعِظَامُ وَالْمُرَادُ عِظَمُ أَشْجَارِهَا وَكَثْرَتُهَا.

 

﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ أَىْ أَلْوَانُ الْفَاكِهَةِ، وَالأَبُّ هُوَ مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

 

﴿مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ أَىْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَمَا بَعْدَهُ خُلِقَ لِمَنْفَعَةِ الإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الأَنْعَامُ وَهِىَ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ تَنْتَفِعُ بِهِ.

 

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ وَهِىَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ صَيْحَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ الْخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذَانَ صَخًّا أَىْ تُصِمُّهَا بِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا، وَجَوَابُ ﴿فَإِذَا﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ.

 

﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ أَىْ لا يَلْتَفِتُ الإِنْسَانُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ لِعِظَمِ مَا هُوَ فِيهِ وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبَةِ الزَّوْجَةُ.

 

﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أَىْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَالًا يَشْغَلُهُ عَنِ النَّظَرِ فِى حَالِ غَيْرِهِ.

 

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ أَىْ أَنَّ وُجُوهَ الصَّالِحِينَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُشْرِقَةً مُضِيئَةً قَدْ عَلِمَتْ مَا لَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ.

 

﴿ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ أَىْ مَسْرُورَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

 

﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ أَىْ غُبَارٌ وَكَمَدٌ فِى وُجُوهِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَهِىَ وُجُوهُ الْكُفَّارِ كَمَا سَيَأْتِى.

 

﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ أَىْ تَغْشَاهَا ظُلْمَةٌ.

 

﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ وَالْكَفَرَةُ جَمْعُ كَافِرٍ وَالْفَجَرَةُ جَمْعُ فَاجِرٍ.

 

وَعَنْ أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ (سُورَةَ الْحَاقَّة 14) قَالَ يَصِيرَانِ غَبَرَةً عَلَى وُجُوهِ الْكُفَّارِ لا عَلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ (سُورَةَ عَبَسَ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.