إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الصفةُ الثالثةَ عشرةَ: الكلامُ
– يجبُ لله تعالى الكلامُ وهو صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ لا يشبهُ كلامَ المخلوقينَ ويُعبرُ عنهُ بالقرءانِ وغيرِهِ من الكتبِ المنزلةِ، وكلامُ المخلوقينَ حادثٌ، فكلامُ الإنسانِ صوتٌ يعتمدُ على مخارجَ ومقاطعَ ومنهُ ما يحصلُ بتصادمِ جسمينِ كصوتِ الحديدِ إذا جُرَّ على الصف (1).
– وليست هذه الكتبُ المنزلةُ عينَ الكلامِ الذاتي بل هي عباراتٌ عنهُ، والدليلُ على ذلكَ من حيثُ العقلُ أنه لو لم يكن متكلمًا لكانَ أبكم، والبَكمُ نقصٌ والنقصُ مستحيلٌ على الله.
– وأما دليلُه النقليُّ النصوصُ القرءانيةُ والحديثيةُ من ذلكَ قولُه تعالى: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تكليمًا﴾ أي أسمعَهُ كلامَهُ الأزليَّ الأبديَّ ففهمَ منه موسى ما فهمَ، فتكلِيمُ الله تعالى أزليٌّ وموسى وسماعهُ لكلامِ الله حادثٌ.
– فالقرءانُ يرادُ به الكلامُ الذي هو معنى، أي صفةٌ قائمة بذاتِ الله، ويطلق على اللفظِ المنزلِ على سيدنا محمدٍ، قال الله تعالى: ﴿نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين﴾، وليسَ الكلام الذي هو معنى قائم بالله المسمى الكلامَ النفسيَّ لكونِهِ قائمًا بذات الله أي بنفسِهِ أي ذاتِهِ.
– فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ هو الذي يكتبُ بأشكالِ الحروفِ ويسمَعُ بالآذانِ ويحفظُ في الأذهانِ بالألفاظِ المتخيَّلةِ ويقرأ باللفظِ، أما الكلامُ الذاتيُّ فلا يحلُّ في المصاحف لكنه يُطلقُ على كلا الأمرينِ أنه كلام الله فهو باعتبارِ إطلاقِهِ على الكلامِ النفسيِ حقيقةٌ عقليةٌ شرعيةٌ، أما باعتبارِ إطلاقِهِ على اللفظِ المنزل فهو حقيقةٌ شرعيةٌ لأن اللفظَ المنزلَ ليسَ عينَ الكلامِ الذاتيِ الأزلي الأبديِ، وتقريبُ ذلكَ للفهمِ أنه يصحُّ أن يقالَ تلفظتُ الله أي تلفظتُ بلفظٍ يدُلُّ على ذاتِ الله المقدسِ، ويقال كتبتُ الله أي أشكالَ الحروفِ الدالةِ على الذاتِ القديمِ، ويقال للفظِ الجلالةِ المكتوبِ على لوحٍ ونحوِهِ هذا الله، ويقالُ قرأ فلانٌ قراءة حسنةً صحيحةً ويقالُ قرأ فلانٌ قراءةً غيرَ صحيحةٍ، فلا يصحُّ أن يكونَ قولُ القائلِ تلفظتُ الله وكتبتُ الله أن يكونَ على الحقيقةِ العقليةِ لأن الله تعالى لا يَحلُّ بألسِنتنا وكذلكَ كلامهُ الذي هو ذاتيٌّ لا يَحُلُّ بألسنتنا، إنما العبارةُ هي التي تحلُّ بألسنتنا، فإن قيلَ إذا لم يكن اللفظُ المنزلُ عينَ كلامِ الله الذاتيّ فكيفَ كانَ نُزُولُهُ على سيدِنا محمدٍ؟
– فالجوابُ: ما قالَهُ بعضُ العلماء إن جبريل وجَدهُ مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ فأنزلَهُ بأمرِ الله له على سيدنا محمدٍ قراءةً عليهِ لا مكتوبًا في صحفٍ ويدلُ لذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿إنه لقولُ رسول كريم﴾ أي مقروء جبريل، فلو كان هذا اللفظُ المنزلُ عين كلامِ الله الذاتي لم يقل الله تعالى: ﴿إنه لقولُ رسول كريم﴾ أي جبريل لأن جبريل هو المراد بالرسولِ الكريمِ.
– أما المشبهةُ فتقولُ الله يتكلم بالحروفِ كما نحن نتكلم بالباء ثم السين ثم ما يلي ذلك من الحروف في بسم الله الرحمن الرحيم وغيرِ ذلك من ألفاظِ القرءانِ، وفيما قالوه تشبيهٌ لله بخلقِهِ لأنه لو كان يتكلمُ بحروفٍ تخرُجُ من ذاتِ الله تعالى كما تخرُج من ألسنتنا لكانَ مثلَنا ولا يجوزُ أن يكونَ مثلَنا لأنه نفى عن نفسِهِ مشابهةَ غيره لَهُ بقولِه: ﴿ليس كمثله شىء﴾، فرضي الله عن أئمةِ أهلِ السنةِ حيثُ بيَّنوا الصوابَ من الاعتقادِ الذي لولا بيانُهُم لخفيَ على كثيرٍ من الخلقِ وَلَوَقَعُوا في تجسيم الله تعالى.
– واستدلالنا بقولِ الله تعالى: ﴿إنه لقولُ رسولٍ كريم ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ من أوضح الدلائل على صحةِ ما يقولُهُ أهلُ السنةِ المنزهونَ لخالقهم عن شبهِ المخلوقينَ، وإلى هذا ذهبَ الفريقانِ من أهلِ السنةِ الماتريدية والأشعريةُ، فقولُ من قال من أهلِ السنةِ القرءان كلامُ الله تعالى بالحقيقةِ ينزل على التبصيرِ الذي قرَّبوه.
– ثم الواجبُ معرفتهُ وجوبًا عينيًّا على كلّ مكلفٍ من صفاتِ الله هي هذه الثلاثَ عشرةَ، وأما التكوينُ وهو التخليقُ للمخلوقاتِ والمقدوراتِ ففهِمَهُ بعضُ أهلِ السنةِ على أنه صفةٌ لله أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى فعندهُم تكوينُ الله أزليٌّ والمكوناتُ حادثةٌ مخلوقةٌ.
– والفريقُ الآخرُ أكثرُ الاشاعرةِ لا يرونَ التكوينَ صفةً لله تعالى أزليةً، إنما يرونَ التكوينَ أثرَ القدرةِ الأزليةِ فعندَهُم لا حاجةَ إلى عدّ التكوينِ صفةً أزليةً، فعلى حسبِ مذهبِ الماتريديةِ تكونُ الصفاتُ الواجبُ معرفتُها على كلّ مكلفٍ أربعَ عشرةَ صفةً، وبعضُ الماتريديةِ وهو صاحب كتاب بدء الأمالي قال في تقريرِ مذهبِهِم في صفاتِ الذاتِ:
صفاتُ الذاتِ والأفعالِ طُرًّا (2) ****** قديماتٌ مصوناتُ الزوالِ
– الماتريديةُ عندَهُم هكذا يقررونَ أن صفات الذاتِ وهي ثلاثَ عشرةَ، وصفاتُ الأفعالِ أي التخليق الذي هو التكوين والإسعادُ والإشقاءُ والإماتَةُ والإحياءُ قديماتٌ أي أزلياتٌ، وقوله: “مصونات الزوالِ” معناه لا تَنعدمُ ليست شيئًا يوجدُ ثم ينقطعُ.
– وأما بعضُ الحنابلةِ قالوا كلامُ الله بصوتٍ لكنَّ متقدميهِم يعنونَ بذلكَ صوتًا أزليًّا أبديًّا ليس كأصواتِ المخلوقينَ فإن الذي يعتقدُ أن كلامَ الله صوتٌ حادثٌ فهو شَبَّهَهُ بخلقهِ وخالف قولَ الله تعالى: ﴿ليس كمثله شىء﴾.
– ثم إن الناسَ افترقوا في مسألةِ الصفاتِ فِرقًا:
* فرقة أثبتتِ الصفاتِ معَ التنزيهِ عن مشابهةِ الخلقِ وهم أهلُ السنةِ والجماعةِ، أثبتوا لله ما أثبتَ لنفسِهِ مع تنزيهِهِ تعالى عن أن تكونَ صفاتُهُ من لوازِمِ الجسميةِ كالجلوسِ والانتقالِ والتحيزِ في جهةٍ من الجهاتِ والتغيرِ والتطورِ وسائرِ أماراتِ الحدوثِ.
* وفرقة عطلتِ الصفاتِ وهم المعتزلةُ وهمُ القدريةُ أنكروا أن الله متصفٌ بصفاتٍ تقومُ بالذاتِ فسمُّوا لذلكَ معطلةً لأنهم عطلوا الصفات أي نفوها.
* وفرقة جعلوا صفاتِ الله من لوازمِ الجسميةِ أثبتوا للذاتِ المقدسِ الحركةَ والسكونَ والتنقلَ وغيرَ ذلك من أماراتِ الحدوثِ كقولِهِم إن كلامَ الله أصواتٌ وحروفٌ توجدُ ثم تنقضي ثم تعودُ ثم تنقضِي ثم تعودُ ثم تنقضِي وهؤلاءِ يسمَّونَ مشبهةً ومجسمةً، ومن هؤلاءِ قسمٌ يصرحونَ بتسميةِ الله جسمًا ثم يقولونَ نحن لا نعني بقولنا إنه جسمٌ أَنه جِرمٌ إنما نعني أنه موجودٌ قائمٌ.
* وقسمٌ يتحاشونَ أن يطلقوا عليه لفظَ الجسمِ مع اعتقادِ معناه، ومن هؤلاء الكراميَّةُ وهم مشبهةٌ مجسمةٌ ينتسبونَ إلى رجلٍ يقال له محمد بن كرام ويقالُ لهؤلاءِ حشويةٌ.
– وأهلُ السنةِ الوسطُ بين ذينِكَ الفريقينِ وهم لقّبوا الأشعريةَ والماتريديةَ لأنهم اتَّبَعُوا إمامي الهدى أبا الحسن الأشعري وأبا منصورٍ الماتريديَّ ويتميزُ هؤلاءِ عن المعطلةِ والمشبهةِ لكونِهِم يثبتونَ لله تعالى الصفاتِ التي مرَّ ذكرُها: العلمُ والقدرةُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ والحياةُ والمخالفةُ للحوادثِ والقيامُ بالنفسِ والوجودُ والوحدانيةُ والقدم والبقاء مع تنزيهِ الله تعالى عن صفاتِ الحدوثِ بقولِهِم في هذه الصفاتِ إنها أزليةٌ أبديةٌ، ولأنهم يؤولونَ ءاياتِ الصفاتِ وأحاديث الصفاتِ من المتشابِه بتركِ حملِها على الظواهِر، فمنهم من يؤولُ تأويلا إجماليًّا ومنهم مَن يؤولُ تأويلا تفصيليًّا ويَرونَ كلا الأمرينِ حقًّا وصوابًا.
– ومثالُ ذلكَ أنهم يحملونَ استواءَ الله على العرشِ المذكورَ في عدةِ ءاياتٍ على معنى يليقُ بهِ تعالى لا على معنَى الجلوسِ والاستقرارِ أو المحاذاةِ أو نحوِ ذلكَ من معاني الاستواءِ في اللغةِ العربيةِ مما هو من استواء المخلوقِ، ثم منهم من يكتفِي بإمرارِها كما جاءت من غير تعيينِ معنى لائق بالله تعالى كالاستيلاءِ والقهرِ، ومنهم من يعينُ معنى لا يلزمُ منهُ علاماتُ الحدوثِ ولوازمُ الجسميةِ فالفريقُ الأولُ منهُم أَوَّلوا تأويلا إجماليًّا والفريقُ الآخرُ أَوَّلوا تأويلا تفصيليًّا.
– وزاغَ أهلُ التشبيهِ عن الحقّ وقالوا إن التأويلَ تعطيلٌ وهو افتراءٌ على أهلِ السنّةِ، وهؤلاءِ يذمون أهلَ الحقّ لتركهم حملَ تلكَ الآياتِ والأحاديثِ المتشابهةِ كآيةِ الاستواءِ المذكورةِ على ظواهرِها، فيقول أحدهم للسني الذي لا يحمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها هذا مؤوّل على وجهِ التعيير وهم معَ ذلك يؤولونَ بعضَ هذه الآياتِ والأحاديثِ، فهم في الحقيقةِ مناقضونَ لأنفسِهِم وإن لم يشعرُوا بذلكَ لأنهم لا يحملونَ الآياتِ التي ظواهرها أن الله في الجهةِ المقابلةِ لجهةِ العلوّ كالأرضِ فإذا جاءوا إلى هذِه الآياتِ كقولِهِ تعالى في حقّ ابراهيمَ: ﴿وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين﴾ لا يحملونَ هذه الآيةَ على أن الله تعالى أرادَ بذلكَ أنه كانَ في أرضِ الشامِ التي هاجرَ إليها إبراهيمُ، كذلك إذا جاءوا إلى قولِهِ تعالى: ﴿وهو معكم أين ما كنتم﴾ لا يحملونَ هذهِ الآيةَ على ظاهرها لأنَّ ظاهرها أن الله مخَالطٌ عبادَهُ في أماكِنهم في الأرضِ أينما كانوا وأنه متنقلٌ معهم.
– ثمَّ إذا قيلَ لَهُم كيفَ تحملونَ بعضَ هذِهِ الآياتِ على ظواهرِها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ ولا تحملونَ الآياتِ الأخرى كآيةِ ﴿وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين﴾ وءاية ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ وما أشبهَ ذلك لا تحملونَها على الظواهرِ أليس هذا تَحَكُّمًا، قالوا الآياتُ التي ظواهرُها أن الله تعالى في جهةِ العلوّ كالعرشِ والسماءِ إذا حملناها على ظواهرِها أثبتنا لله الكمالَ وأما الآياتُ التي ظواهرُها أنه تعالى في جهةِ تحت لا نحملُها على ظواهرها لأن جهةَ تحتٍ خلافُ الكمالِ وهي نقيصةٌ في حقّ الله تعالى.
– وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون: ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.
– والحاصلُ أن هذه الطائفةَ كأنها لا تدري ما تقولُ، أما أهلُ الحقّ الذين لا يحملونَ تلك الآياتِ على الظواهرِ ما أوهمَ منها تحيزَ الله في جهةِ العلوّ وما أوهَمَ منها تحيزَهُ في جهةِ تحت فهم جانبوا التحكمَ أي الدعوى بلا دليلٍ، وأما الفئة التي تحملُ بعضَ تلك الآياتِ والأحاديثِ على ظواهرِها وتترك حملَ بعضٍ على ظاهرها فقد تحكمت ولزمَها التشبيهُ فهم مشبهةٌ في الحقيقةِ وإن كانوا لا يرضونَ هذا الاسمَ لهُم.
– ومن عادتِهِم أنهم يموهونَ على الناسِ بقولِهِم استوى على العرشِ بلا كيف أو بقولِهم على ما يليق بهِ وهم يعتقدونَ في الله الكيفَ الذي نفاه السلَف فليحذرِ العَاقل تمويهَهُم، تعالى الله عما يقولون.
————-
(1)- الصفا: الصخر.
(2)- طرًا: معناه جميعًا.