إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
شرح صِفَة الْعِلْم للهِ تعالى
اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ أَزَلِيٌّ، فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَلا يَتَّصِفُ بِعِلْمٍ حَادِثٍ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْحَوَادِثِ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.
فالْعِلْمُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ جَوْهَرًا يَحُلُّ بِهِ الْعَرَضُ، فَعِلْمُنَا عَرَضٌ يَحُلُّ بِأَجْسَامِنَا وَيَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ كُلَّ شَىْءٍ، يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ، وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمًا بِالْكَائِنَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، حَتَّى مَا يَحْدُثُ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ الَّتِي لا انْقِطَاعَ لَهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، قَالَ تَعَالَى ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء 126].
وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنَ الإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَالإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقَانِ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَمَّا عِلْمُهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمُسْتَحِيلاتِ وَبِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة 255] فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَأَهْلَ الأَرْضِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَأَوْلِيَاءَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أَيْ مَعْلُومِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ أَيْ إِلَّا بِالْقَدْرِ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمُوهُ، هَذَا الَّذِي يُحِيطُونَ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿قُلْ لَّا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ النَّمْل 65] فَالْمَنْفِيُّ عَنِ الْخَلْقِ عِلْمُ جَمِيعِ الْغَيْبِ أَمَّا بَعْضُ الْغَيْبِ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْبَشَرِ وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ وَالْمَلائِكَة، وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَقَدْ سَوَّى الرَّسُولَ بِاللَّهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَلا فَرْقَ بَيْنَ مِنْ يَقُولُ الرَّسُولُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطَاءِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَكِلا الِاعْتِقَادَيْنِ كُفْرٌ مِنْ أَبْشَعِ الْكُفْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا شَرْعًا أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعَ مَا يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ مَعْنَى إِنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَاوِي خَلْقَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ. فَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ يَقُولُ اللَّهُ يَجْعَلُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِثْلَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَسَادُهُ فَتَجَرَّءُوا بَلْ صَارُوا يَرَوْنَ هَذَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ، فَلَوْ قِيلَ لِهَؤُلاءِ فَعَلَى قَوْلِكُمْ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الرَّسُولَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَمَاذَا يَقُولُونَ، حَسْبُنَا اللَّهُ، وَهَذَا مِنَ الْغُلُوِّ الَّذِي نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَهَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ قُوَّةِ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ وَمَحَبَّتِهِ، وَهَؤُلاءِ لَهُمْ وُجُودٌ فِي فِرْقَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي الْهِنْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [سُورَةَ الْجِنّ] فَلا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ الرُّسُلَ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ غَيْبِهِ كَهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ يَجْعَلُ لَهُ رَصَدًا أَيْ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَـ﴿إِلَّا﴾ هُنَا لَيْسَتِ اسْتِثْنَائِيَّةً بَلْ هِيَ بِمَعْنَى (لَكِنْ)، فَيُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ أَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ جَمِيعِهِ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَكُونُ الإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿عَلَى غَيْبِهِ﴾ لِلْعُمُومِ وَالشُّمُولِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الأُصُولِيِّينَ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ لِلْعُمُومِ، فَيَكُونُ مَعْنَى غَيْبِهِ أَيْ جَمِيعَ غَيْبِهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ عَلَى غَيْبِهِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ خَلْقُهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْعِلْمُ بِكُلِّ شَىْءٍ قَالَ تَعَالَى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام 101]، وَالْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى عِلْمِ الرُّسُلِ بِبَعْضِ الْغَيْبِ إِنَّمَا الَّذِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ الرُّسُلَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَرَسًا مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُمْ.
وَأَمَّا اطِّلاعُ بَعْضِ خَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَمَلائِكَةٍ وَأَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ كَحَدِيثِ (اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ).
فَلَوْ كَانَ يَصِحُّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى الْعِلْمُ بِكُلِّ شَىْءٍ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى تَمَدُّحٌ بِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ بِكُلِّ شَىْءٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ كَمَنْ قَالَ الرَّسُولُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكَمَنْ قَالَ الرَّسُولُ مُرِيدٌ لِكُلِّ شَىْءٍ سَوَاءٌ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ الرَّسُولَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ بِإِعْلامِ اللَّهِ لَهُ أَوْ لا فَلا مَخْلَصَ لَهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى هَؤُلاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام 59]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام 73] فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَمَدَّحَ بِإِحَاطَتِهِ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عِلْمًا.
وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى هَؤُلاءِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [سُورَةَ الأَحْقَاف 9] فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ بِنَصِّ هَذِهِ الآيَةِ لا يَعْلَمُ جَمِيعَ تَفَاصِيلِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، فَكَيْفَ يَتَجَرَّأُ مُتَجَرِّئٌ عَلَى قَوْلِ إِنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ بِكُلِّ شَىْءٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ حَدِيثًا بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ، فَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَدْ غَلا الْغُلُوَّ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة 77]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّ الْغُلُوَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِأُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ هَؤُلاءِ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا أَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾).
وَمِنْ أَعْجَبِ مَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلاءِ الْغُلاةِ لَمَّا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: كَيْفَ تَقُولُ الرَّسُولُ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَقَدْ أَرْسَلَ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَبِيلَةٍ لِيُعَلِّمُوهُمُ الدِّينَ فَاعْتَرَضَتْهُمْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ فَحَصَدُوهُمْ، فَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا هَلْ كَانَ يُرْسِلُهُمْ؟ فَقَالَ نَعَمْ يُرْسِلُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَمِثْلُ هَذَا الْغَالِي فِي شِدَّةِ الْغُلُوِّ رَجُلٌ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ شَيْخُ أَرْبَعِ طُرُقٍ فَقَالَ: الرَّسُولُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ وَهَذَا مِنْ أَكْفَرِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا لِأَنَّ الأَوَّلَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ وَهُوَ اللَّهُ بِصِفَاتِهِ فَقَطْ.
وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال 66] فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ.
فهَذِهِ الآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ نُسِخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيْجَابِ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ رَحْمَةً بِهِمْ لِلضَّعْفِ الَّذِي فِيهِمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد 31] مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ يُجَاهِدُ وَيَصْبِرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا قَبْلُ كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال 37].
يعني أنّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْبَلايَا حَتَّى يُظْهِرَ وَيُمَيِّزَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الصَّادِقُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمَشَقَّاتِ مَعَ إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّادِقِ الَّذِي لا يَصْبِرُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ ثُمَّ عَلِمَ بَلِ الْمَعْنَى لِيُظْهِرَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَالنُّصُوصُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد 3].