إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
صيام ستة أيام من شوال
جاء فِي شَرْح صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعاً لرمضان) حدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بَنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِى سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِىِّ، عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًا منْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ).
وقوله (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًا منْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) قال الإمام (1) قَال بعض أهل العلم معنى ذلك أن الحسنة لما كانت بعشر أمثالها، كان مبلغ ماله من الحسنات فى صوم الشهر والستة أيام ثلاثمائة وستين حسنةً (عدد أيام السنة، فكأنه صام سنة كاملة، يكتب له فى كل يوم منها حسنة).
قال القاضى (ما حكاه عن بعض أهل العلم نص فى الحديث نفسه من رواية ثوبان، قال عليه السلام (صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة بشهرين فذلك صيام سنة) وفى رواية أخرى (الحسنة بعشر فشهر بعشرة وستةٌ بعد الفطر تمام السنة) خرجه النسائى.
قال الإمام (أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء، وروى عن مالك وغيره كراهة ذلك لما ذكره فى موطئه أنه لم ير أحداً من أهل الفقه والعلم يصومها ولم يبلغنى ذلك عن أحد من السلف، وأهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. قال شيوخنا ولعل مالكاً إنما كره صومه على هذا، وأن يعتقد من يصومه أنه فرضٌ، وأما من صامه على الوجه الذى أراد النبى عليه السلام فجائز، وقال بعضهم لعل الحديث لم يبلغه أم لم يثبت عنده، أو لما وجد العمل بخلافه).
قال القاضى (ويحتمل أن كراهة ما كره من ذلك، وأخبر أنه غير معمول به اتصال هذه الأيام برمضان إلا فضل يوم الفطر، فأما لو كان صومها فى شوال من غير تعيين ولا اتصال أو مبادرة ليوم الفطر فلا، وهو ظاهر كلامه بقوله فى صيام ستة أيام بعد الفطر).
وَقَال الشيخ محمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله المالكي (المتوفى 1299 هـ) في منح الجليل شرح مختصر خليل (باب في الصيام) (وَشَبَّهَ فِي الْكَرَاهَةِ فَقَالَ (كَ) صَوْمِ (سِتَّةٍ) مِنْ الْأَيَّامِ (مِنْ شَوَّالٍ) فَيُكْرَهُ لِمُقْتَدًى بِهِ مُتَّصِلَةً بِيَوْمِ الْعِيدِ مُتَتَابِعَةً مُظْهِرَةً مُعْتَقِدًا سُنِّيَّةَ وَصْلِهَا وَإِلَّا فَلَا يُكْرَهُ انْتَهَى).
ثم قال رحمه الله (إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَوْمَهَا لِذِي الْجَهْلِ خَوْفًا مِنْ اعْتِقَادِهِ وُجُوبَهَا.
وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا) فَشَهْرُ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ تَمَامُ السَّنَةِ، مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا وَسُنِّيَّةِ اتِّصَالِهَا، وَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ السِّتَّةِ بِكَوْنِهَا مِنْ شَوَّالٍ لِمُجَرَّدِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ لِسُهُولَةِ الصِّيَامِ فِيهِ بِاعْتِيَادِهِ فِي رَمَضَانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْمَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِهَا فِي شَوَّالٍ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْكَرَاهَةِ).
وقال النووي في شرح صحيح مسلم قال أصحابنا (والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة لأنه يصدق أنه أتبعه ستاً من شوال) انتهى.
وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي.
(1) أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التَّميمي المازَري، إمام المالكية في عصره ومن المحدّثين المشهورين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق حتى سُمِّي بالإمام، قال عنه القاضي عياض (هو آخر المتكلمين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقّة النظر، لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه ولا أقوم بمذهبهم).