إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا كَامِلَةٌ
صِفَاتُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِيٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الأَزَلِ، أَمَّا صِفَاتُ الْخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَىْءٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، فَالْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ.
لَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كُلُّهَا أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً لا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَالتَّطَوُّرَ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ وَالتَّطَوُّرَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلامَةُ الْحُدُوثِ، فَالإِنْسَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالتَّغَيُّرَ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النَّقْصِ وَالْعَكْسَ أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ، فَصِفَاتُ اللَّهِ لا تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنَ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ وَعِلْمُ اللَّهِ لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ بَلْ عِلْمُهُ كَامِلٌ كَمَا سَائِرُ صِفَاتِهِ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ، فَلا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ جَدِيدٌ بَلْ هُوَ عَالِمٌ فِي الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ فَالتَّغَيُّرُ يَحْصُلُ فِي الْمَعْلُومِ الْحَادِثِ لا فِي عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ فِي الْمَاضِي وَمَا يَكُونُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ وَمَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى الأَشْيَاءَ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي الآخِرَةِ اللَّهُ عَلِمَ بِهَا فِي الأَزَلِ، حَتَّى أَنْفَاسَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِلا انْقِطَاعٍ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، هُنَا يَحْتَارُ الْعَقْلُ، فَإِذَا أَجْرَى الشَّخْصُ قَلْبَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ الْوَهْمُ يَنْهَارُ، هُنَا يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ مُحِيطًا بِمَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَنْفَاسُهُمْ جَارِيَةٌ لا انْقِطَاعَ لَهَا؟!!
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد 31] فَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا.
هَذِهِ الآيَةُ لا تَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ إِنَّمَا تَعْنِي الآيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ حَتَّى يُظْهِرَ وَيُمَيِّزَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الصَّادِقُ وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّادِقِ، فَالْمَلائِكَةُ يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا صَادِقٌ صَابِرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَابِرٍ، يَكْشِفُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ مَنِ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرِينَ عَلَى الْمَشَقَّاتِ، يُظْهِرُهُمْ لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لا يَصْبِرُونَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ مَنْ هُوَ الصَّابِرُ وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّابِرِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال 37].
وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الأَزَلِ بَلْ يَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ.
وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّهَا كَامِلَةٌ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف 180].
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف 180] مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الأَسْمَاءُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَاللَّهُ لا يُوصَفُ إِلَّا بِصِفَةِ كَمَالٍ فَمَا كَانَ مِنَ الأَسْمَاءِ لا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَهُ كَمَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ (ءَاه)، وَبَعْضُهُمْ سَمَّاهُ (رُوحًا)، وَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرٍ سَاقَهُ طَوِيلٍ لَفْظُ (يَا رُوح) وَهَذَا إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ فَلْيُجْتَنَبْ هَذَا وَنَحْوُهُ فَهَذَا لا يَجُوزُ لِأَنَّ كَلِمَةَ ءَاه وَضَعَهَا الْعَرَبُ لِتَدُلَّ عَلَى الشِّكَايَةِ وَالتَّوَجُّعِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَإِذَا قَالَ ءَاه ءَاه فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ) أَيْ يَدْخُلُ إِلَى فَمِهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ءَاه لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا إِنَّ مَنْ قَالَ ءَاه فِي الصَّلاةِ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاتُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ، فَلَوْ كَانَ ءَاه مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمَا أَبْطَلَ الصَّلاةَ.
وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى يُطْلَقُ عَلَيْهَا صِفَاتُ اللَّهِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ إِلَّا لَفْظَ الْجَلالَةِ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ، ثُمَّ إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى قِسْمَانِ قِسْمٌ لا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ وَقِسْمٌ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، اللَّهُ وَالرَّحْمٰنُ وَالْقُدُّوسُ وَالْخَالِقُ وَالرَّزَّاقُ وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَالْمُحْيِي الْمُمِيتُ لا يُسَمَّى بِهِ إِلَّا اللَّهُ، أَمَّا أَكْثَرُ الأَسْمَاءِ فَيُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ الشَّخْصُ ابْنَهُ رَحِيمًا وَالْمَلِكَ كَذَلِكَ وَالسَّلامَ كَذَلِكَ.
فَائِدَةٌ:
أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ مَنْ حَفِظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا مَضْمُونٌ لَهُ الْجَنَّةُ، وَيُوجَدُ غَيْرُهَا أَسْمَاءٌ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الَّتِي هِيَ لِلأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى بِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ يَجِبُ احْتِرَامُهَا.
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [سُورَةَ النَّحْل 60] فَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أَيُّ نَقْصٍ، مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ لِلَّهِ الْوَصْفُ الَّذِي لا يُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ. أَمَّا اتِّفَاقُ اللَّفْظِ فَلا يَعْنِي اتِّفَاقَ الْمَعْنَى، فَاللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَالَّتِي لا تَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ أَيُّ نَقْصٍ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ.