إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

صِفَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
 
كان المصطَفى رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أي مَربوعَ الخَلْقِ مُعتدِلَهُ لا مِنْ قِصَارِ الرّجَالِ ولا مِنَ الطِّوال لكِنَّهُ كانَ إلى الطولِ أقرب، وكانَ بعيدَ ما بينَ الْمَنكِبَين أي عريضَ ما أعلى الظَّهرِ والصَّدرِ وهو دليلُ النجابةِ، والمنْكِبُ مَجْمَعُ العَضُدِ والكَتِفِ.
 
وفي الصَّحيحِ مِنْ طريقِ البراءِ بنِ عازب أنَّ شعرَهُ كانَ يبلغُ شحمةَ أذنِهِ أي إذا أخذَ منهُ، وفي روايةٍ يوفّرُهُ مرة أخرى فيكونُ وَفْرَةً وهو الشعر الذي يَصِلُ شحمةَ الأذنِ، وفِي روايةٍ كان شعره يبلغُ شحمةَ أذنِهِ كان يضربُ منكِبيه مرةً، ومرَّة يطولُ حتى يعلوَ ظهرَهُ.
 
قال القاضي المالكي أبو الفضل عياض بن موسى:
والْجمعُ بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغُ شحمةَ أذنيه والذي بينَ أذنيه وعاتقِهِ وما خلفَه هو الذي يضرِبُ مَنكبيه وقيل بل يَختلِفُ باختلافِ الأوقات، فإذا لَم يقصِّرْهُ بلغَ المنكبَ وإذا قَصَّرَهُ كان إلى أنصَافِ أُذُنَيهِ، وكانَ يَفْرِقُ شعرَهُ ولا يَحلقُ رأسَه إلا لأجل النسك وكان يجعلُ شعرَهُ أربعَ ضفائِرَ ويَجعلُ كُلاًّ مِنْ أذُنيه بين ضفيرتين وكانَ شعرُهُ حِلقًا حِلقًا ولَم يكن سَبْطَ الشعر ولا جَعدَ الشعر.
 
وكانَ الْمصطفى أبيضَ اللَّونِ مُشْرَبًا بالحُمرَةِ والإشرابُ خلطُ لونٍ بلون كأنَّ أحدَ اللّونينِ سُقِيَ بالآخر، وفي صحيحِ البخاريِّ عن أنسٍ كانَ أزهرَ اللَّونِ أي أبيضَ مُشرَبًا بِحُمرَةٍ وكانَ أشكلَ العينين أي يُخالِطُ بياضَ عينيهِ حُمرةٌ وهو محمودٌ مطلوب، واسعَ العينين طويلَ شِقِّ العَين، وكان أدعجَ العينينِ والدَّعَجُ شِدَّةُ سوادِ العينِ وقيلَ هو شِدَّةُ سوادِ العينِ معَ شِدَّةِ بياضِها.
 
وفي الصَّحيحِ عن أنسٍ أنه رَجْلٌ جَعْدُ الشعرِ ومرادُهُ أنه ليس بِسَبِطٍ وهو المنبسطُ المسترسل الذي لا تَكسُّرَ فيه ولا بِجعدٍ وهو ما بضدِّهِ بل كان بينَ ذلك كما جاء في الخبرِ الآخر، وكان كَثَّ اللّحيةِ أي كثيرَ شعَرِها غليظَه، وكانَ أشعرَ الصَّدرِ أي كثيرَ الشَّعَرِ على صدرِهِ رَقيقَ المَسرُبَة وفُسّرَ بأنه الشَّعر الْمُسْتدَقّ مِنَ السُّرةِ إلى مُحاذاةِ اللَّبة وهو شعَرٌ يَجري كالقضيبِ ليسَ في بطنِهِ ولا ظهرِهِ غيره، وكان شَثْنَ الكفينِ والقدمين أي غليظَهما مِنْ غير قِصَرٍ ولا خُشونَةٍ فالمرادُ غِلَظُ العُضوِ في الخلقَةِ لا خشونَةَ الجلدِ وذلكَ يستلزِمُ قوةً في القبضِ والمشيِ وهو محمودٌ في الرجال، والكفين تَثنِيَةُ كَفٍّ وهي الراحَةُ معَ الأصابعِ سُمّيت به لأنها تَكُفُّ الأذى عَنِ البدنِ.
 
وكانَ إذا مَشَى كأنما ينحَطُّ مِنْ صَبَبٍ أي ينحَدِرُ مِنْ مكانٍ عالٍ، وكان إذا مشَى كأنما يَتَقَلَّعُ أي يُخرِجُ قدميهِ مِنْ صَخْرٍ أي قويَّ المَشيِ كأنهُ يرفعُ رِجليهِ مِنَ الأرضِ رَفعًا قويًّا مُسْرِعًا لا كَمَنْ يَمشي اختيالاً، ويقارب خطاه وكان يُقبِلُ بكُلِّهِ أي بكلِّ جسمِهِ إذا التفت فلا يُسارِقُ النظرَ ولا يلويَ عُنقَهُ في حالِ تَلفُتِهِ فكانَ يُقبِلُ جَميعًا ويُدبرِ جَميعًا أي بِجَمِيعِ أجزاءِ بدنِهِ فإذا توجَّهَ إلى شىءٍ توجَّهَ بِكُلّيتِهِ ولا يُخالِفُ ببعضِ جسَدِهِ بعضًا، وكانَ عرقُهُ إذا رَشَحَ جسَدُهُ الشريف كاللؤلؤِ فِي البياضِ والصَّفاءِ إذا نظرَ إليه الرائي، وكان ريحُ عرقِهِ أطيبُ مِنَ المسك ومِنْ ثَمَّ كانت تَجمعُهُ أم سُلَيم سَهْلَة أو رَملَة أو الرُّمَيصَا في قارورةٍ وتجعلُهُ في طِيبِها كما رواهُ مسلمٌ وغيرُهُ، وفي بعضِ طُرُقِهِ وهو أطيبُ الطيبِ فهو لعمري والله أطيبُ طِيبٍ وأفضلُهُ، وفي حديثِ وائلِ بنِ حِجْر عندَ الطبرانِيّ والبيهقيّ قد كنتُ أصافِحُ رسولَ الله أو يَمَسُّ جلدي جِلدَهُ فأتعرّفُهُ بَعْدُ فِي يدي وإنه لأطيَبُ رائحةً مِنَ الْمِسكِ، وفِي حديثِهِ عندَ أحمدَ أُتِيَ رسول الله بدلوٍ مِنْ ماءٍ فَشَرِبَ منه ثُمَّ مَجَّ فيهِ ثُمَّ صَبَّهُ فِي البئرِ ففاحَ منها ريحُ الْمِسك.
 
وروى أبو يَعلَى والبزّار بسَنَدٍ صحيح عن أنَسٍ رضيَ اللهُ عنه كانَ إذا مَرَّ أي رسولُ الله في طريقٍ مِنْ طُرُقِ المدينة وُجِدَ منها رائحةُ المسك فيُقال مَرَّ رسول الله، يقول مَن ينعتُهُ أي يَصِفُهُ  ما رأيتُ مِثلَهُ قبلَهُ ولا بعدَهُ قطّ.
 
وروى الشيخان عن البَراءِ بنِ عازبٍ رضيَ اللهُ عنه (لَم أرَ شيئًا أحسَنَ منه).
 
وروى ابنُ أبِي سفيانَ فِي مُسندِهِ عن أبي إسحاقَ الهمَدانِيّ قلتُ لامرأةٍ حَجَّت معَ المصطفى شبِّهِيهِ لِي فقالت كالقمَرِ ليلةَ البدرِ ولَم أرَ قبلَهُ ولا بعدَهُ مِثلَهُ.
 
وروى الدّارِمِيّ قال أبو عُبيدَةَ بنُ محمّدِ بنِ عمّارِ بنِ ياسر قلتُ للرُّبَيّعِ بنتِ مُعَوِّذ صفيْ رسولَ الله قالت لو رأيتَهُ لقلتَ الشَّمسُ طالعِةً أي لرأيتَ شَمسًا طالعةً.
وروى أحمد وغيره عن أبِي هريرة ما رأيتُ أحسَنَ منْ رسولِ الله كأنَّ الشمسَ تَجري فِي وجهِهِ، وفِي لفظٍ تَخرُجُ مِنْ وجهِهِ.
 
وكان أبلجَ الوجهِ أي مُشرِقُهُ نيّرُهُ ظاهرُ الوَضَاءَةِ والبهجَةِ والجمَال، قالَ البراءُ بنُ عازب رضي الله عنه (ما رأيتُ مِنْ ذي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمراء أحسنَ منه) رواه مسلمٌ وأبو داودَ.
 
وقال أبو هريرة (كانَ أحسَنَ الناسِ صِفَةً وأجملَهُم) رواهُ الحسَنُ بنُ الضحَّاكِ في شَمائلِهِ.
 
وقالَ ابنُ عباسٍ (لَم يقم مع شمسٍ قطُّ إلا غلَبَ ضوءُهُ ضوءَ الشمسِ ولم يقُم مع سراجٍ قطّ إلا غلبَ ضوءُهُ ضوءَ السّراجِ) رواهُ ابنُ الجوزِيّ.
 
وقال نَفْطَويه في قوله تعالى ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ الآية، هذا مَثَلٌ ضربَهُ الله لنبيّهِ، يقول: يكادُ نظرُهُ يدلُّ على نبوَّتِهِ وإن لَم يتلُ قُرءانًا لَم تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ أي لَم يوجد في بدنِهِ شىءٌ يُعابُ به ثَجْلَةٌ ولا غيرُها، والثَّجلَةُ عِظَمُ البَطنِ مع استرخاءِ أسفلِهِ، ولَم يُعِبهُ رِقّةٌ وهُزالٌ وضَعْفُ تركيب، ولَم تُزْرِ به صَعْلَةٌ أي لَم يُحتقر ولم يُستخفَّ به بسَبَبِ صِغَرِ الرأسِ أو الرقَّةِ والنحولِ في البدنِ، والأهدابُ منه فيها وَطَفٌ مِنْ طولِها وفِي روايةٍ غَطَفٌ وهو أنْ يطولَ شعَرُ الأجفانِ ثم يَتَغَطَّف أي أن يطولَ وينعَطِفَ، والجِيدُ أي العنُقُ فيه سطَعٌ وهو طولُ العنقِ وارتفاعُهُ وسيمٌ، أي ومن صفاتِهِ الحسنُ والوضاءةُ فإنه صارَ الحسنُ له علامة، والصوت منه فيه صحَلٌ وهو غِلَظٌ في الصوتِ وفي صوتِهِ شِبْهُ بُحَّةٍ، ومن صفاتِهِ أنه قَسِيمٌ والقسامةُ الحسنُ أي جَميلٌ كلُّهُ كثيفُ اللّحيةِ أزجُّ أي مقوّس الحاجبين أي طويلُهما دقيقُهُما مُمتدُّهُما إلى مؤخَّر العين سوابغُ في غيرِ قرَن كان بِحَسَبِ ما يبدو للناظر من بُعدٍ أو بغيرِ تأمّلٍ أقرن وأما القريبُ المتأملُ فيبصرُ بين حاجبيهِ فاصلاً لطيفًا فهو أبلَجُ فِي الواقع أقرنُ بحسب الناظرِ من بُعْدٍ أو بغير تأمُّلٍ، والعَرَبُ تستَملِحُ البلَجَ والعجمُ تستحسنُ القرنَ ونظرُ العربِ أدقُّ وطبعُهُم أرقُّ، أجملُ الناسِ وأبهاهُم من بعيد وأحسنهُ وأحلاهُ من قريب، أي مَنْ رءاهُ مِنْ بُعْدٍ رءاهُ أجملَ من كلِّ أحد وأبهى، والبهاءُ حُسْنُ الهيأةِ إن تكلّمَ علا بكلامِهِ على مَنْ حولَهُ مِنْ جُلسائهِ وإن صمَتَ فعليهِ الوقارُ أي الحلمُ والرّزانةُ، وفي روايةٍ إذا صمتَ فعليه البهاء وإذا نطقَ فعليهِ الوقار ،كأن مَنْطِقَهُ خرزاتُ نَظمٍ يتحَدّرْنَ أي منطِقُهُ يُشبِهُ خرزاتِ اللؤلؤِ المنظومِ إذا تحدّرت مِنْ فِيهِ وتساقطت.
 
(فَصْلُ الكلامِ) أي كلامُهُ بَيّنٌ ظاهرٌ يَفْصِلُ بينَ الحقِّ والباطلِ ليسَ فيه هَذَرٌ أي ليسَ فِي كلامِهِ تكثيرٌ يَمَلّ سامِعُهُ، حُلوُ المنطِقِ لا نَزَرٌ ولا هَذَرٌ أي ليسَ كلامُهُ بقليلٍ لا يُفهَم ولا بكثيرٌ يُمَلُّ، ولَم يكن كلامُهُ بقليلٍ يدُلُّ على عِيِّ المُتَكَلِّمِ به.
 
وكانَ المصطفى ليس بالطويلِ البائنِ ولا تقتحمُهُ عينٌ من قِصَر، أي لا يزدريهِ من ينظُرُهُ لقِصَرٍ ولا يحتقرُهُ فيتجاوزُ عنه إلى رؤيةِ غيرِهِ بل يهابُهُ ويُعظِّمُهُ لحُسنِ منظرِهِ وعِظَمِ قدرِهِ، تطوفُ رُفقتُهُ به ويدورونَ حولَهُ مع اهتمامِهِم بشأنهِ إذا أمرهم بشىء تبادروا له امتثالاً لأمرِهِ وإن قال قولاً أنصتوا له إجلالاً وإعظامًا، فهو عند أصحابِهِ مَحفُود أي مخدوم يُسرعون طاعةً له، مَحشُودٌ أي يجتمعُ الناسُ حولَهُ ليمتثلوا قولَهُ ويقتدوا بأفعالِهِ، ليس بعابِسٍ أي الكريهِ المُقلِي ولا مُفَنِّد وهو الذي لا فائدةَ لكلامِهِ لقلّةِ عقلِهِ. وكان مُفَخَّمًا أي مُعَظّمًا في الصّدورِ والعيون فخمًا أي عظيمًا في نفسِهِ يتلألأ وجههُ تلألؤَ القمرِ ليلة البدرِ أي يشرقُ وجههُ ويَسْتَنِير كاستنارةِ القمر ليلة بَدَارَتِهِ وهي ليلةُ أربعةَ عشَر، مُعتدلُ الخلْقِ في جميعِ صفاتِهِ ومعتدِلُ الصّورةِ الظاهرةِ بِمعنى أن أعضاءَهُ متناسبة، عريضُ الصدرِ عظيمُ الرأسِ عظيمُ الهامَ واسِعُ الجبين أي مُمتدُّهُ طويلُهُ وعريضُهُ وذلك مَحبوبٌ مَحمود، ضَليعُ الفَمِ أي عظيمُهُ واسِعُهُ والعربُ تتمدَّحُ به وتذمُّ ضيّقَهُ، وكان لِسَعَتِهِ يفتتحُ الكلامَ ويَختِمُهُ بأشداقِهِ وهو دليلٌ على قوّةِ الفصاحة، أقنَى العِرْنِين أي مُرتفعُ أعلى الأنفِ مُحدودِبُ الوسطِ منه، وهذا معنَى قولِ ابنِ الأثير هو السَّائلُ الأنفِ المرتفعُ وسَطُهُ، له نورٌ يعلوه يَحسَبُهُ مَنْ لَم يتأمّلْهُ أشَمَّ أي يَعْلو أوّلَ أنفِهِ وطولَ قصبتِهِ نورٌ ساطِع وإذا لَم يتأملهُ الناظِرُ يظُنُّهُ أشَمَّ الأنفِ، والشَّمم ارتفاعُ قصبَةِ الأنفِ وطولُها مع استواءِ أعلاه وإشرافِ الأرنبَةِ قليلاً، مُفَلَّجَ الأسنانِ أي مفرَّجَ ما بينَ الثَّنايا والرَّباعِيَات، والفَلَجُ أبلغُ في الفصاحَةِ لأنَّ اللِّسانَ يتّسِعُ فيها بِخِلافِ الألَصّ، واللَّصَصُ تقاربُ ما بينَ الأضراس حتى لا تَرى بينها خَلَلاً.
 
سَهلَ الخدّينِ أي سائلَهُما غيرَ مرتَفِعِ الوَجنَتِينِ وذلكَ أعلى وأحلى عندَ العرب، أشنَبُ أي أبيضُ الأسنان بادِنٌ أي عظيمُ البدَنِ لكن لا مطلقًا بل بالنسبةِ لما ذكروهُ من كونِهِ شثنَ الكفين والقدمين، جليلَ المُشاشِ ومع ذلك كان متماسكًا أي يُمسِك بعضُ أجزاءهِ بعضًا مِنْ غير تزحزحٍ ولا استِرْخَاءٍ في اللَّحم ليسَ بسَمينٍ ولا ناحِل فهو معتدلُ الخلْقِ لأنه تعالى حَماهُ خَلقًا وخُلقًا مِنَ الإفراطِ والتّفريط، وكانَ طويلَ الزندين وهو ما انحسَر عنه اللحمُ من الذراع ،وفي الصَّحاح موصلُ طرفِ الذراعِ من الكفِّ، عنُقُهُ يُرى كجيدِ دُمية أي يراهُ الرائي كجيدِ دُميةٍ كصورةٍ مصورةٍ بيضاءَ مُشرَبَةً بحُمرة قد بولِغَ في تَحسينِهِا، وكان عنقُهُ مع ذلك كالفضةِ الصافية فشُبِّهَ عنقُهُ بالدُّمْيَةِ في الصَّفاءِ والاعتدال وظُرفِ الشكل وحُسنِ الهيأةِ والكمَالِ وبالفضةِ باللمعانِ والضياءِ والإشراقِ والجمال وكان بين حاجبيهِ عِرقٌ يُدِرُّهُ الغضبُ أي يحركُهُ ويُظهرُهُ ويُهيّجُهُ بإثارَةِ ما فيه من الدّمِ وفيه دليلٌ على كمالِ قوّتِهِ الغضَبية التي عليها مدارُ حمايَةِ الديار وقمعِ الأشرار وكمالِ الوقار وتمكّنِهِ من الغضبِ للجبارِ القهار إذا انتُهِكَ شىءٌ من محارِمِهِ. وكان إذا خطبَ علا صوتُهُ واحمرّت عيناه.
 
وكان سائلَ الأطراف أي طويلَ الأصابعِ مُمتدَّها بلا احديدابٍ ولا تعقُّدٍ ولا انقباضٍ ولا تكسُّرِ جِلدٍ ولا تشنّجٍ، رَحْبَ الراحةِ أي واسِعَ الكفِّ حِسًّا ومعنًى والراحةُ بطنُ الكفِّ، ضخمَ الكراديس أي عظيمَ رؤوسِ العظامِ غليظَها، ذريعَ المِشيةِ أي سريعَ هيئةِ المشيِ واسِعَ الخُطوةِ فهو مع كونِ مَشيِهِ بسكينةٍ كان يمدُّ خُطوتَهُ حتى كأن الأرض تُطوى له، وكانَ خُلُقَهُ القرءان أي ما دَلَّ عليه مِنْ أوامرِهِ ونواهيهِ ووعدِهِ ووعيدِهِ فهو لدى غضبِهِ غضبان ،أي كلُّ مكانٍ جاءَ فيهِ ما يدلُّ على غَضَبِ الله فهو غضبانٌ لأجلِهِ، يرضى بما يرضاه القرءانُ ويتأدّبُ بآدابهِ ويتخلّقُ بأخلاقِهِ ويلتزِمُ أوامِرَهُ ولا يغضبُ لنفسِهِ إلا إذا ارتُكِبت محارمُ الله فإنه حينئذ ينتقمُ من مُرتَكِبِها فإذا تُعُدّيَ الحقُّ لم يقم لغضبِهِ شىء أي لشدّةِ انتقامِهِ.
 
وفي روايةِ الطبرانيّ فإذا انتهِكت حُرمَةُ الله كان أشدّ الناس غضبًا لله أي فينتقمُ من مرتكِبِ ذلك كما هو شأنُ أكابِرِ المرسلين، وقد بعثَهُ الله الرَّحمٰنُ بالإرفاقِ أي رفقًا بهذه الأمّة لكي يُتمّمَ مكارِمَ الأخلاق، وكان أشجعَ الناس أي أقواهُم قلبًا وأكثرُهُم جراءةً لِمُلاقاةِ العدوّ في مكانِ القتالِ، وطالَما استنجدَهُ الخائفُ عند خوفِهِ فأنجَدَهُ أي أعانَهُ ونصرَهُ كان أسخى الناس كَفًّا ما سُئلَ رسول الله شيئًا قطُّ يعنِي حاجةً مِنْ متاعِ الدُّنيا يُبَاحُ إعطائُها فقالَ لا، بل إنما يُعطيهِ أو يقولُ له مَيسُورًا مِنَ القولِ فيَعِدُهُ أو يَدعُوَ له، وليس يأوي إلى منزلهِ إن فَضَلَ أي بقيَ مما أُتِيَ به إليهِ من نحو غنيمةٍ درهَمٍ أو دينار حتى يُفرِّقَهُ على مُستحقّيه، وكان أصدَقَ الناسِ لهجةَ أي لسانًا يعني كلامًا والمعنى كلامُهُ أصدقُ الكلام ولسانُه أصدقُ الألسنة، وكان أوفى الناسِ ذِمّةً أي عهداً وأمانًا وألينهُم عَرِيكَةً أي أحسنَهم معاشرَةً فكان على الغايةِ من التواضعِ وقِلّةِ النفور والخلافِ وهكذا كان حالُهُ مع جميعِ أمةِ الإجابة وكانَ أكرَمَهُم في عِشرة أي في حُسنِ صُحبة، من يُصاحبه ويُعاشره لا يحسبُ جليسَهُ أي مَنْ يُجالسُهُ أن سواهُ أقربَ منه إليهُ لعُظمِ إكرامِهِ له، وكان أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدرِها أي يزيدُ على العذراءِ في خِدرها حياءً، وكان نظرُهُ إلى الأرض أكثرَ من نظرِهِ إلى السماءِ كما في خبر الترمذيّ يعني نظرُهُ إلى الأرضِ حالَ السكوتِ وعدمِ التحدُّثَ أطولَ من نظرِهِ إلى السماء، والنظرُ كما في الصَّحاحِ بفتحتين تأملُ الشىء بالعين، والأرضُ الجِرمُ المقابلُ للسماء، وإنما كان نظرُهُ إلى الأرض أطول لأنه أجمعُ للفكرَ وأوسعُ للاعتبار، أو لأنه أكثرُ الناس حياءً وأدبًا مع ربِّهِ، أما في حال التحدُّثِ فكان يُكثرُ أن يرفعَ طرْفُهُ إلى السماء فلا تعارُضَ بين حديثِ الترمِذي وهذا وبين حديثِ أبي داود كان إذا جلسَ يتحدّثُ يُكثرُ أن يرفَعَ طرفَهُ إلى السَّماء، وكان لا يُثبتُ بصرُهُ في وجهِ أحد لِشِدّةِ حياءِهِ أي إذا نظرَ لشىء ما خفَضَ بصرَهُ لأن هذا شأن المتواضِعِ وهو متواضعٌ بسليقَتِهِ وشأن المتأملِ المتفكِّر وهو مَشغولٌ بالتفكُّرِ فِي ءالاءِ رَبِّهِ، وقيل هو كِنايةٌ عن لِينِ جانبِهِ ومزيدِ تواضُعِهِ، والطَّرفُ العَينُ وهو في الأصلِ تحريكُ الأجفانِ عند النظرِ فوضِعَ موضِعُ النظر وكان أكثرَ الناسِ تواضُعًا.
 
كيف وقد خُيِّرَ بين أن يكونَ نبيًّا مَلِكًا أو نبيًّا عبدًا فاختارَ الثانية، وكان يُجيبُ كلَّ من دعاه من بعيدٍ أو قريب من عبدٍ أو حُرٍّ أو فقيرٍ أو غنيٍّ دنِيٍّ أو شريف، وكان أرحمَ الناسِ بكُلِّ مؤمن وبكلِّ طائفٍ فلا يختصُّ برحمتِهِ من يعقلُ بل تعمُّ رحمتُهُ من لا يعقِلُ كالوحشِ والطَّيرِ، وكان كل طائف يعروهُ أي يقصدُهُ حتى الهرّة فكانت تأتيه فكان يُصغي لها الإناء لتشربَ يفعلُ ذلك غيرَ مرّة بل كلُّ هرةٍ أتته يفعلُ بها ذلك، وكان أعفَّ الناس أي أنزههم عما لا يليقُ ومن عِفَّتِهِ أنه ليس يُمسكُ أيدي نساءِ من ليس لهنَّ يَملِكُ من رقٍّ ونكاح وفي الحديثِ (ما مسّت يدُ رسول الله يد امرأةٍ لا تحلُّ له قطُّ) وكان يُبايعُ النساءَ ويستغفرُ لهنّ امتثالاً لقولِهِ تعالى ﴿واستغفر لَهُنَّ الله﴾ لكن لا يُصافحُ أيديهنّ بل مبايعتُهُ لهنَّ كلامٌ صالحٌ يعنِي بايعَهُنَّ بالكلامِ لا بالمصافحَةِ في اليدِ عند المبايَعَةِ، وكان أشدَّ الناس لأصحابهِ إكرامًا لهم ومِن ذلك أنه كان لا يَمُدُّ رِجلَهُ بين جُلسائهِ احترامًا لهم.
 
وفي روايةٍ كان أوقر الناسِ في مجلِسِه لا يكادُ يُخرجُ شيئًا من أطرافِهِ إكرامًا واحترامًا لهم ولم يكن يُقدّمُ رُكبتيه على جليسِهِ بل كان يُكرِمُهُ بتجنّبِ ذلك تواضعًا وإيناسًا، ومن رءاهُ بديهةً أي رؤيةً بديهةً يعني فجأةً من غير مُخالطتهِ ومعرفِةِ أخلاقهِ وقبلَ النظرِ في أخلاقِهِ العَلِيّةِ وأحوالِهِ السَّنِيّة هابهُ وعظّمَهُ وخافهُ طبعًا أي بالطّبعِ وإن لم يرَهُ قبل ذلكَ لمِا علاهُ من صفاتِ الجلالِ ونعوتِ الكمال، ومن خالطَهُ وعاشرَهُ أحبّهُ لما يُشاهدُهُ من محاسنِ أخلاقِهِ ومزيدِ شفقتِهِ وتواضُعِهِ وباهرِ عظيمِ تألُّفِهِ وأخذِهِ بالقلوبِ فكانت تحنُّ إليه الأفئدة وتَقَرُّ به العيون وتأنسُ به القلوب فكلامُهُ نور ومدخَلُهُ نور ومخرَجُهُ نور وعمَلُهُ نور إن سكتَ علاهُ الوَقَار وإن نطَقَ أخذَ بالقلوبِ والبصَائرِ والأبصَار.