إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإنّ أفضلَ الأعمال إيمان بالله ورسوله، أمر العقيدة الإسلامية مهمّ جدّا وقد أَوْلاهُ الرّسول والصّحابة ومَن جاء بعدهم مِن أهل العلم اهتمامًا عظيمًا لأنّه الأصل الذي به وبالإخلاص تُقبل الأعمال عند الله وبدونه لا يَقبل الله من أحد عملًا، ومن العقيدة الصحيحة تنزيه الله عن المكان والجهات كما جاء في القرآن والحديث وأقوال السّلف والخلف الصالحين، فإن الله سبحانه وتعالى غنيّ عن العالمين، أيْ مستغنٍ عن كل ما سواه من المخلوقات، ولا يحتاج إلى أحد من مخلوقاته، موجود أزلًا وأبًدا بلا مكان، ويكفي في تنزيه الله تعالى عن المشابهة لخلقه وعن الاحتياج إلى المكان أو أن يجري عليه زمان قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) وقال اللهُ تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، قال القرطبي في تفسيره (قال ابن عبّاس يريد هل تعلم له ولدًا أي نظيرًا أو مثلًا) وقال اللهُ تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَد) أي ليس له سبحانه شبيه ولا مثيل ولا نظير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء)، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث (والمراد بكان في الأول الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم) فالله لم يزل موجودًا في الأزل، ليس معه غيره، لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسيّ ولا عرش ولا إنس ولا جنّ ولا ملائكة ولا مكان ولا جهة ولا زمان، فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان، وخلق العرش، فليس بحاجة إلى أحد من خلقه.
وقد قال سيّدنا الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، والمحدود ما له حجم صغر أو كبر، وقال أيضا (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) رواه أبو منصور البغدادي في كتابه الفَرق بين الفرَق.
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي المولود سنة 227 هـ المتوفّى سنة 321 هـ (تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات ولا تحويه الجهات الستّ كسائر المبتدعات) وقال أيضا (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر) والمحدود عند علماء التّوحيد ما له حجم صغيرًا كان أو كبيرًا، الحدّ عندهم هو الحجم إن كان صغيرًا وإن كان كبيرًا، الذّرة محدودة والعرش محدود والنّور والظلام والرّيح والرّوح كل محدود.
وقال الشيخ عزّ الدين بن عبد السّلام (ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون و لا السّماوات، كان قبل أن كوّن المكان ودبّر الزّمان، وهو الآن على ما عليه كان) من كتاب طبقات الشافعيّة الكبرى لتاج السّبكي، وقال أيضا (استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواءً منزّهًا عن المماسّة والاستقرار والتّمكن والحلول والانتقال فتعالى الله الكبير المتعال عمّا يقوله أهل الغيّ والضّلال بل لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته).
وقال الإمام أبو المظفّر الأسفراييني عن الله تعالى (وأن تعلم أنّه لا يجوز عليه الكيفيّة والكميّة والأينيّة، لأنّ من لا مثل له لا يمكن أنْ يُقال فيه كيف هو، ومن لا عدد له لا يقال فيه كم هو، ومن لا أوّل له لا يقال له ممَّ كان، ومن لا مكان له لا يقال فيه أين كان) من كتابه التّبصير في الدّين صفحة 144.
وقال الشيخ العلامة أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي (المتوفّى سنة 1305هـ) في نَفْيِهِ الحيّز والمكان عنِ الله وفي تِبيانه لمعنى قوله تعالى (ليس كمثله شىء) (لو كان له جهة أو هو في جهة لكان متحيّزًا وكل متحيّز حادث و الحدوث عليه محال) وقال أيضًا (فلا يقال له يمين ولا شمال ولا خلف ولا أمام ولا فوق العرش ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا يقال لا يعلم مكانه إلا هو).
وقال الإمام أحمد الرّفاعي رضي الله عنه في شرح قوله تعالى (ليس كمثله شىء) (والله تعالى كان ولا مكان ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على مكان ولا في مكان، بل كان جلّت عظمته ولا زمان ولا مكان) وقال أيضا في البرهان المؤيّد (أي سادة نزّهوا الله عن سِمات المحدثين وصفات المخلوقين وطهّروا عقائدكم عن تفسير معنى الاستواء في حقه تعالى بالاستقرار كاستواء الأجسام على الأجسام المستلزم للحلول تعالى الله عن ذلك، وإيّاكم والقول بالفوقيّة والسفليّة والمكان واليد والعين بالجارحة والنّزول بالإتيان والانتقال) وقال أيضا (إذا قلتم لا إله إلّا الله فقولوها بالإخلاص الخالص من الغيرية ومن خطورات التّشبيه والكيفيّة والتّحتيّة والفوقيّة والبعديّة والقربيّة).
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه (مهما تصوّرت ببالك فالله بخلاف ذلك).
وقال الإمام النّسفي (461 – 537 هـ) في العقائد ما نصّه (عن الله سبحانه وتعالى) (ليس بعرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصوّر، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعّض، ولا متحيّز، ولا متركّب، ولا متناه، ولا يوصف بالماهية، ولا بالكيفيّة ولا يتمكّن في مكان، ولا يجري عليه زمان ولا يشبهه شىء) والمحدود عند علماء التّوحيد واللغة ماله حجم إن كان كبيرًا وإن كان صغيرًا فالعرش له حجم لا يعلمه إلا الله لكنّه مخلوق، أمّا الله سبحانه فلا يوصف بالحجم، ولا بالجسم ولا بالكيفيّة أي لا يوصف بصفات المخلوقين، وانظر قوله (ولا يتمكّن في مكان ولا يجري عليه زمان) معناه الله موجود بلا مكان فليس ساكنًا في السّماء ولا جالسًا على العرش وليس له بداية، سبحانه عزّ وجلَّ.
وقال الشيخ عبد الغني النّابلسي (توفّي سنة 1143 هـ) في كتابه شرح إضاءة الدّجنّة في عقائد أهل السنّة عن الله عزَّ وجلَّ ما نصه (فيتنزّه سبحانه وتعالى عن جميع الأزمنة الحاضرة والماضية والمستقبلة، وكذلك عن جميع الأمكنة العلويّة والسفليّة وما بينهما).
وقال الشيخ عبد الله الصديق الغماري رحمه الله (كان الله ولم يكن شىء غيره، فلم يكن زمان ولا مكان ولا قُطر ولا أوان ولا عرش ولا ملك ولا كوكب ولا فلك، ثم أوجد العالم من غير احتياج إليه، ولو شاء ما أوجده).
وقال الشيخ الحسين بن محمد السعيد الورثيلانيّ الجزائري (المتوفى سنة 1193 ھ) في شرحه على نظم النورية في التوحيد ما نصه (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي لم يشابه أحدًا ولم يشابهه أحد، منزه على الإطلاق وغنيٌّ بالاتفاق، لا يعزب عنه شىء، فهو قائم بنفسه على الدّوام، يجب له الكمال على العموم، فليس في مكان، ولا في زمانٍ، ولا في جهةٍ، ولا له وُجهة، ولا بجوهرٍ، ولا عرضٍ إذ كلّ ذلك يستلزم الحدوث والافتقار إلى مخصص) وقد توفي الشيخ الحسين بن محمد في قريته بني ورثيلان التابعة لولاية سطيف وهي ولاية جزائرية تقع غربي الجزائر وما زال قبره فيها يزار إلى اليوم ومن أبرز مؤلفات الورثيلاني أيضًا كتاب نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار المعروف بـالرحلة الورثيلانية وهو كتاب في التاريخ يُحسب من بين أهم وأكبر الأعمال التي أنجزها الورثيلاني في علم التاريخ، والرحلة الورثيلانية من أهم المصادر التي تضاف إلى مؤلفات الرحّالة المغاربة ومن بين أبرز الرحلات التي شهدتها الفترة العثمانية خلال القرن الثاني عشر الهجري.
اللهُ لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ، مَمْنُوعٌ أَنْ يُحَاوِلَ الإِنْسَانُ الوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ اللهِ لأَنَّهُ لَا يَصِلُ مَهْمَا فَكَّرَ، الإِنْسَانُ يَعْرِفُ الجِسْمَ، يَعْرِفُ الجِسْمَ الكَثِيفَ والجِسْمَ اللَّطِيفَ لِذَلِكَ مَمْنُوعٌ التَّفَكُّرُ فِي ذَاتِ اللهِ، يتَفَكَّرُ فِي خَلْقِهِ، الإِنْسَانُ يَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لا يَتَفَكَّرُ في ذاتِ اللهِ، فَذاتُ اللهِ، حَقيقَةُ اللهِ لا يَعْلَمُها إلّا الله لأنَّ حَقيقَةَ اللهِ لَيْسَ جِسْمًا وَلَيْسَ شَكْلًا وَلَيْسَ صورَةً وَلَيْسَ لَوْنًا وَلا يُتَخَيَّلُ، لِذَلِكَ لا يَجوزُ التَّفَكُّرُ في ذاتِ اللهِ بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ بِأَنّهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) لا شَبيهَ لَهُ وَأَنَّ صِفاتِ اللهِ صِفاتُ الكَمالِ اللّائِقَةُ بِذاتِهِ سُبْحانَهُ لا يُشْبِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لا في ذاتِهِ وَلا في صِفاتِهِ وَلا في فِعْلِهِ.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) فيما رواه عنه الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه (إن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية).
وقال قاضي الصحراء أبو بكر (1) محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (ت 489 ھ) في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له).
وقال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (2) المالكي البجائي الجزائري (المتوفى سنة 768 هـ) في مقدمته (المقدمة الوغليسية) قال في تنزيه الله تعالى ما نصه (ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، منزه عن التركيبات والتحديدات والتقديرات وعن صفات المتحيزات ولواحق المحدثات، وهو خالق الموجودات وما يجري عليها من التبديلات والتغييرات، واحد لا شريك له (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
أماتنا الله على عقيدة الأنبياء وحشرنا معهم وجمعنا مع سيّد الأوّلين والآخرين في جنّات النّعيم.
(1) في القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء كان رجلا نبيها عالما وإماما في أصول الدين وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
(2) اعتنى أهل العلم بكتاب المقدمة الوغليسية فتجلى ذلك في ما سجَّلته كتب التراجم والفهارس من شروح عليها حيث تهافت العلماء لشرحها مما ساعد على شهرتها وانتشارها وكانت وفاة الشيخ أبي زيد الوغليسي في سنة 786 هـ وقد تم دفنه في بجاية في الجزائر ومن تلاميذه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن رحمهما الله ونفعنا ببركاتهم ءامين.