إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
لَيْسَ هَذَا الْكَلامَ الَّذِي عَابَهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِي شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِاسْنَادِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) أَيِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ، وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي يَشْتَغِلُونَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَدْ عُمِلَ بِهِ مِنْ قبلِ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِي ذَلِكَ وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا، أَيْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ الْفِقْهِ.
فَعِلْمُ التَّوْحِيدِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَمَا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ أَبُو حَنِيفَةَ الْفِقْهَ الأَكْبَرَ إِيذَانًا وَإِعْلامًا بِأَنَّهُ هُوَ الْفِقْهُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا ذَمُّوا كَلامَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ أَهْلِ الضَّلالِ الْمُنْشَقِّينَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَعَقِيدَةِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخَالِفِينَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ لَهُمْ مَقَالاتٍ يُجَادِلُونَ عَلَيْهَا لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بَاطِلٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ (لَأَنَّ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ (الأَهْوَاءِ) أَيِ الْعَقَائِدُ الَّتِي مَالَ إِلَيْهَا الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ لَهُمْ مُؤَلَّفَاتٍ وَلا سِيَّمَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالنُّزُولِ وَالصُّعُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ، وَكَلِمَةُ الأَهْوَاءِ جَمْعُ هَوًى وَالْهَوَى مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْبَاطِلِ، أَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ أَدِلَّةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا مِنْ أَفْرَضِ الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ حِفْظٌ لِأُصُولِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ.