إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فوائد منثورة عن ليلة القدر

ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، هذه الليلة العظيمة التي نزل فيها القرآن الكريم والتي أخبر عنها المولى بأنها (خير من ألف شهر) ليلة القدر عرفت أكثر في تونس بليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، لذلك يختصها التونسيون بالعبادة، وهذه العادات تناقلته الأجيال جيلًا عن جيل.
ومن العادات المتوارثة في المجتمع التونسي طبخ أكلة الكسكي ليلة السابع والعشرين، وقبل حلول أذان المغرب يتبادل الجيران والأقارب أطباق الكسكسي مزينًا بما لذ وطاب، وذلك في دعوة إلى التسامح والتحابب فيما بينهم، كما يقوم البعض الآخر بشراء ما يساوي عشاء صائم في تلك الليلة ويتصدق به إلى العائلات الفقيرة والمعوزة، وفي ليلة السابع والعشرين تقوم بعض العائلات بختان أولادهم، فيلبسونهم الجبة التقليدية التونسية والشاشية، فإنّ ختان الأطفال في ليلة القدر من العادات التونسية، ومن العادات الحميدة والجميلة التي يتناقلها المجتمع التونسي أن تتكفل إما الجمعيات الخيرية أو العائلات الغنية بمهمة ختان أطفال العائلات المعوزة والمحتاجة ويقام لهم حفل ختان جماعي، وفيه كل مظاهر البهجة والفرحة وترتفع الزغاريد والأناشيد الدينية فرحًا بالمطهر فشأنه شأن أبناء العائلات التي يكون باستطاعتها ختان أولادها.
ومن العادات الجميلة أيضًا أن تقام الاحتفالات الدينية في مسجد الزيتونة بالعاصمة ويهل الناس من كل حدب وصوب حيث ترتفع أجمل التلاوات والأدعية والأذكار ويكرّم حافظو وحافظات القرآن الكريم، وتشهد مدينة القيروان وفود العديد من الزوار من كل جهات البلاد ليحتفلوا بليلة القدر في جامع سيّدي عقبة بن نافع، الذي بني سنة 50 هجريًا، ويرتفع عدد الزوار في ليلة القدر ليصل إلى الآلاف، حيث بلغ عدد الزوار في مدينة القيروان (1) قرابة خمسين ألفًا السنة الماضية.
فعلى مدى السنين حافظ التونسيون على هذه العادات القيمة والنبيلة ذات البعد الديني وتناقلت بين الأجيال.

وقد قال شيخ الإسلام القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم ولي قضاء سبتة، ومولده فيها ثم قضاء غرناطة (476 – 544 هـ) في إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب فى قيام رمضان وهو التراويح (حدَّثنى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
وقال رحمه الله (باب الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها أحاديث ليلة القدر) (حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عنْهُمَا أَنَّ رِجَالاً منْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فى الْمَنَامِ، فِى السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِى السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَليَتَحَرَّهَا فِى السَّبْعِ الأَوَاخِرِ).
قال القاضي رحمه الله (سميت ليلة القدر بما تقدر فيها من الأقدار وما يكون فى تلك السنة من الأرزاق والآجال بقوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) ولقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ومعنى ذلك والله أعلم إظهار ما قدره الله فى أزله من ذلك لحملة وحيه وملائكة سماواته ونفوذ أمره بذلك لهم ووحيه أو إظهار ما شاء من أفعاله الدالة على ذلك عندهم، وإلا فقدر الله وسابق علمه بالآجال والأرزاق وقضاؤه بما كان ويكون لا أول له. وقيل سماها بليلة القدر أى ذات القدر العظيم والمحل الشرِيف كما قال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر) وكما قال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة) فسماها بهذا لنزول القرآن جملة فيها إلى سماء الدنيا وثبات خيرها ودوامُهُ، وهو يعنى البركة.
قال الإمام (2) (جاء فى حديث أبى سعيد (التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان) وعلى هذا يأتى أنها ليست فى ليلةٍ معينة أبداً، وأنها تنتقل فى الأعوام، ونحو هذا قول مالك والثورى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبى ثور وغيرهم إنها تنتقل فى العشر الأواخر من رمضان.

مقتطفة من كتاب المجموع شرح المهذب (يستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والمستحب أن يقول فيها اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني لما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال تقولين (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).

فرع في مذاهب العلماء في مسائل في ليلة القدر وقد جمعها القاضي الإمام أبو الفضل عياض السبتي المالكي في شرح صحيح مسلم فاستوعبها وأتقنها ومختصر ما حكاه أنه قال أجمع من يعتد به من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أن ليلة القدر باقية دائمة إلى يوم القيامة للأحاديث الصريحة الصحيحة في الأمر بطلبها واختلفوا في محلها فقيل هي متنقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة في ليلة أخرى وبهذا يجمع بين الأحاديث ويقال كل حديث جاء بأحد أوقاتها فلا تعارض فيها.

قال (ونحو هذا قول مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم قالوا وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، قال وقيل بل كل رمضان خاصة وهو قول ابن عمر وجماعة وقيل بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو قول ابن عباس. وقيل ليلة أربع وعشرين وهو محكي عن بلال وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم وقيل ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة منهم أبي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم وذكر غير القاضي هذه الاختلافات مفرقة).

(فرع) اعلم أن ليلة القدر يراها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة من رمضان كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر.

(فرع) قال صاحب الحاوي (يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها ويدعوا بإخلاص ونية وصحة يقين بما أحب من دين ودنيا ويكون أكثر دعائه للدين والآخرة).

(فرع) في بيان جملة من الأحاديث الواردة في ليلة القدر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.

وعن ابن عمر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أرى رؤياكم قد توطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) رواه البخاري ومسلم.

وعن عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري ومسلم ولفظه للبخاري.

وفي رواية للبخاري (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، في تاسعه تبقى، في سابعه تبقى في خامسه تبقى) رواه البخاري.

وعن عبادة بن الصامت قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خير لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة) رواه البخاري ومعناه رفع بيان عينها ولا رفع وجودها فإنه لو رفع وجودها لم يأمر بطلبها، قال العلماء ومعنى (عسى أن يكون خيرا لكم) أي لترغبوا في طلبها والاجتهاد في كل الليالي.

وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليلة القدر ليلة أربع وعشرين) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (وقيل) إنه جيد ولم أره، وعن زر بن حبيش قال سألت أبي بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله (أراد أن لا يتكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف أن لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين)، فقلت بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها) رواه مسلم، وفي رواية لمسلم (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين) وفي رواية أبي داود بإسناد صحيح (قلت يا أبا المنذر إني علمت ذلك؟ فقال بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لزر ما الآية، قال تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع).

وعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال (ليلة سبع وعشرين) رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وعن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال (هي في كل رمضان) رواه أبو داود هكذا بإسناد صحيح وقال رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفا على ابن عمر لم يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كلام أبي داود، وهذا الحديث صحيح وقد سبق أن الحديث إذا روي مرفوعا وموقوفا فالصحيح الحكم برفعه لأنها رواية ثقة.

(1) أخرج أبو العرب التميمي التونسي الحافظ في كتاب طبقات علماء إفريقية المتوفى سنة 333 هـ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَلْشُونِيِّ قَال أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ كَانَ مَعَهُ فِي عَسْكَرِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ عُقْبَةَ جَمَعَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلَ الْعَسْكَرِ فَدَارَ بِهِمْ حَوْلَ مَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ وَأَقْبَلَ يَدْعُو لَهَا وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ امْلأْهَا عِلْمًا وَفِقْهًا، وَاعْمُرْهَا بِالْمُطِيعِينَ وَالْعَابِدِينَ، وَاجْعَلْهَا عِزًّا لِدِينِكَ، وَذُلا لِمَنْ كَفَرَ بِكَ، وَأَعِزَّ بِهَا الإِسْلامَ، وَامْنَعْهَا مِنْ جَبَابِرَةِ الأَرْضِ، قَالَ فَتِلْكَ مَعْصُومَةٌ مِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) انتهى.
ويروى أنه عندما دخلها سيّدنا عقبة بن نافع جاؤوا إلى موضع القيروان وهي في طرف البرّ وهي أجمة عظيمة وغيضة لا يشقها الحيّات من تشابك أشجارها، وقال إنما اخترت هذا الموضع لبعده من البحر لئلا تطرقها مراكب الروم فتهلكها وهي في وسط البلاد، ثم أمر أصحابه بالبناء فقالوا هذه غياض كثيرة السباع والهوام فنخاف على أنفسنا هنا، وكان عقبة مستجاب الدعوة فجمع من كان في عسكره من الصحابة وكانوا ثمانية عشر ونادى أيتها الحشرات والسباع نحن أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فارحلوا عنّا فإنّا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه، فنظر الناس يومئذ إلى أمر هائل، كان السبع يحمل أشباله والذئب يحمل أجراءه والحيّة تحمل أولادها وهم خارجون أسرابا أسرابا فحمل ذلك كثيرا من البربر على الإسلام، ثم اختطّ دارا للإمارة واختطّ الناس حوله وأقاموا بعد ذلك أربعين عاما لا يرون فيها حيّة ولا عقربا (من كتاب معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي المشهور ب ياقوت الحموي المتوفّى 626 هـ).
(2) أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التَّميمي المازَري، إمام المالكية في عصره ومن المحدّثين المشهورين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق حتى سُمِّي بالإمام، قال عنه القاضي عياض (هو آخر المتكلمين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقّة النظر، لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه ولا أقوم بمذهبهم).