إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال الله العلي القدير في محكم كتابه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) سورة ءال عمران ءاية 185، تفكروا في الحشر والمعاد، وتذكروا يوم يقوم الأشهاد فإن في القيامة لحسَرَات، وإن في الحشر لزَفَرَات، وإن عند الصراط لعَثَرات، وإن عند الميزان لعَبَرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوِى حتى النظرات، وإن الحسرة والندم على السيئات، والفرحة والسرور على الحسنات، ففريق في الجنة يرتقون الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلا أن يقال فلان مات، نعم أيها الأحبة فلان مات كلمة يرددها كثير من الناس ويسمعها كثير لكن السؤال لمن سمعها هل فكر واعتبر ولنفسه حاسب ولتقصيره جَبَر وسأل نفسه ماذا حَضّر إذا قيل يومًا عنه فلان مات.
وقال الله عزّ وجلّ (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) سورة السجدة ءاية 11، مَلَكُ الموت بإجماع الأمة هو سيدنا عزرائيل عليه السلام وهو ملك كريم على الله كسائر الملائكة موكل بقبض الأرواح فإذا قبض نفس المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب وبرحمة الله ورضوانه وإذا قبض نفس الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب وبسخط الله وعقابه، فلا يتركون الروح في يد سيدنا عزرائيل بعدما يقبضها طرفة عين، بل يذهبون بها إلى السماء إن كانت الروح لمؤمنٍ تقيّ، وإلى الأرض السابعة إن كانت لكافر شقيّ، فإذا وضع الميت على النعش وحمله الناس إلى القبر رجعت الملائكة بالروح تحملها وتمشى بها مع الجنازة فإن كانت للرجل الصالح قال كما ورد في الحديث (قَدّمونِي قَدّمونِي وإن كانت للرجل السوء وفي رواية الكافر قال يا ويلِى أين تذهبون بِى لكن لا يسمع ذلك الإنسان ولو سمعها الإنسان لصَعِقَ) روى هذا الحديث البخاري والنسائي وأحمد وغيرهم بألفاظ متقاربة، ثم يوضع الميتُ إخوةَ الإيمان في قبره ويتركه الولد والمال والأهل والخلان ولا يبقى معه إلا العمل فقد قال عليه الصلاة والسلام (يَتْبَعُ المَيّتَ ثَلاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ) رواه البخاري، ثم يكون سؤال الملكين منكر ونكير لهذا الميت فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَأهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِن النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا من الجنَّةِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الكافر أَو المُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَهُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) رواه البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة واللفظ هنا للنسائي.
الإيمان بسؤال الملكين منكر ونكير أى التصديق به واجبٌ على كل مكلف وهو يحصل للمؤمن والكافر من أمة الدعوة أى الذين أُرسل إليهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم المؤمن الكامل لا يـحصل له فزع ولا انزعاج من سؤالهما لأن الله يثبت قلبه فلا يرتاع من منظرهما المخيف لأنهما كما جاء في الحديث أسودان أزرقان لهما أعين حمراء كقُدُورِ النُّحاس وأنيابٌ كصَيَاصِى البقَر أى تُشبِهُ قُرونَ البقر يشُقَانِ الأرض بأنيابهما شقا وصوتهما كالرعد، (انظر فتح البارى)، مع هذا المؤمن الكامل يفرح برؤيتهما وسؤالهما لأنه يعرف أنه ناجٍ فيقول مجيبًا عن سؤالهما عن حبيب رب العالمين أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِن النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعدًا خَيْرًا مِنْهُ، وفي رواية انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهٍ مَقْعَدًا فِى الْجَنّةِ، أما المنافق أو الكافر فإنه يرتاع ويضطرب من شدة خوفه منهما حتى إنه يجرى على لسانه كلام هو لا يريد أن يقوله حتى يصير يقول لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فيقولان له لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وهى كلمة تقال للتقريع، ثم يضربانه بالمطرقة يضربانه على رأسه بمطرقة من حديد ضربة يصيح بها صيحة عظيمة يسمعها كل من يليه إلا الثقلين أى إلا الإنس والجن.
سؤال الملكين في القبر من خصائص هذه الأمة سواء كان مؤمنًا أم كافرًا كما مرّ لكن يُستثنى من السؤال النبي صلى الله عليه وسلم لشرفه فالملائكة لا تسأله وكذلك شهيد المعركة الذى يموت في قتال الكفار لا يُسأل لأن روحه تصعد مباشرة إلى الجنة وكذلك الطفل لا يُسأل وهو من مات دون البلوغ لأنه ليس مكلفًا، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سؤال الملكين، فقال سيدنا عمر أَتُرَدُّ علينا عقولُنا يارسول الله قال (كهيئتكم اليوم)، فحالُ الإنسان في القبر يشبه حاله في الدنيا فإنه يشعر بالنعيم ويشعر بالألم وهذا يكون بالروح والجسد وإن أُخْفِىَ عنا هذا في الدنيا.
تذكروا أنّ الدنيا سائرة إلى انقطاع ومصيرنا إلى القبور وكلٌّ يُفضِى إلى ما قدّم ولا يكون مع الإنسان في قبره إلا عملُهُ فالعاقل هو الذى يتذكّر الموت ويعدّ للآخرة فيتزود من هذه الدنيا بالعمل الصالح فالقبر صندوق العمل وقد قال بعضهم:
النفس ترغب في الدنيا وقد علمت *** أنَّ السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التى كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنهُ *** وإن بناها بشرّ خاب بانيها
أين الملوك التى كانت مسلطَنة *** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوى الميراث نجمعها *** ودورنا لفناء الدهر نبنيها
اللهم زهّد قلوبنا في الدنيا واملأ قلوبنا رغبة في ما عندك وثبتنا في القبر ويوم العرض يا أرحم الراحمين.