إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ لهُ النّعمَةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ اللهِ البَرّ الرّحِيم والملائكةِ المقَرَّبين على سيّدِنا محمّدٍ أشرَف المرسلينَ وعلى آلهِ وصَحبِه الأكرَمِينَ وعلى جميع إخوانِه منَ النّبِيّين والمرسَلين وسلامُ اللهِ علَيهم أجمَعين، أمّا بعدُ فَقد قال الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وروى الإمام أحمدَ في مُسنَده مِن حديثِ أبي بَكرٍ رضيَ الله عنه قال إنّ الناسَ يَقرأون هذه الآيةَ في غَيرِ مَوضعِها سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنّ النّاسَ إذا رأَوُا المُنكَر ولم يَأخذُوا على يدَيْ مَن يَفعَلُه أَوشَكَ أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعِقابٍ منهُ قَبلَ أن يَمُوتُوا).
هذه الآيةُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) معناها أنتم أيّها المؤمنونَ اعمَلُوا لطَاعَة الله تعالى، افعَلُوا ما أمرَكُمُ اللهُ به وكُفُّوا عَمّا نهَاكُم عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم) معناهُ أنتُم ائْتَمِرُوا بالمعروف لأنفُسِكُم وانتَهُوا عن المحَرّمَاتِ لأنفُسِكُم، معنى ذلكَ أنّ الإنسانَ إذا فعَلَ ما أمَرَ اللهُ بهِ تعَلَّمَ عِلمَ الدّينِ الذي يُعرَفُ بهِ الحَلالُ والحرام والفَرضُ والمحَرَّم وما يجُوز وما يَحرُم وما يَجُوز مِنَ الكَلام وما يَحرُم وما يجوز مِنَ الملبَس والمشرَب وما يَحرُم إلى غَيرِ ذلكَ مِن أُمور الدّين الضّرُوريّة وعمِلَ بذلكَ لنَفسِه أي أدّى ما فرَض اللهُ عليهِ بأن عمِلَ بكُلّ الواجبات ومن جملَة الواجِبات التي فرَضَها اللهُ علينا أن نَأمُرَ بالمعروف ونَنهَى عن المنكر ونَجتَنِبَ ما حَرّمَ الله علينا بعدَ هذا مَن فعَل هذا لا يَضُرُّه بعدَ ذلكَ مَن ضَلّ، مَن فعَل هذا لا يضُرُّه ضَلالُ غيرِه، مَن فعَل ما أُمِرَ بهِ أَدّى الواجباتِ واجتنَب المحرَّمات.
ومِن جملَة الواجباتِ الأمرُ بالمعروفِ أي أن يَأمُرَ غَيرَه بما فرَض الله، يا فُلانُ صَلّ يا فُلانُ صُم رمضان يا فُلانُ أَدّ زكاةَ مالِكَ إن كانَ لهُ مالٌ يُزَكّيْه إلى غَيرِ ذلكَ، يَأمُر غيرَه بفَرائض الدّين ويَنهَى غَيرَه عمّا حَرّمَ اللهُ، هو مؤتَمرٌ لنَفسِه بما فرَض اللهُ عليهِ ومجتَنِبٌ ما حَرّمَ اللهُ عليهِ ثم يَأمُر غَيرَه بفَرائِض دِينِ الله ويَنهَى عمّا حَرّم الله، بعدَ ذلكَ لا يَضُرُّه مَن ضَلَّ هذا معنى الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ليسَ معنى الآيةِ أنّ الإنسانَ إذا صَلّى وصَامَ وزَكّى لنَفسِه وتجَنّبَ المحرَّماتِ لنَفسِه لكنّه لا يَأمُر غَيرَه بالواجِباتِ مع الاستطاعَة، لا يأمُر غَيرَه بالفرائض ولا يَنهَى عن المحرَّماتِ غيرَه أمّا لنَفسِه أدّى الواجباتِ واجتَنبَ المحَرّمات، ليسَ معنى الآيةَ أن هذا يكفي، ليس معنى الآية أنّه إذا أَدّيتُم الواجباتِ لأنفُسِكُم واجتَنَبتُم المحَرّماتِ لأنفُسِكُم ما علَيكُم أن تَأمُروا غَيركُم ولا أن تَنهَوا غَيرَكُم، ليسَ هذا معنى الآيةِ، لذلكَ قالَ سيّدُنا أبو بَكرٍ رضيَ الله عنه (إنّ النّاسَ يضَعُونَ هذه الآيةَ في غيرِ مَوضِعِها) في زمَانِه علِمَ بأُناسٍ يظُنُّونَ هَذا الظّنَّ الفَاسِدَ أنّ الإنسانَ إذا أدّى الواجِباتِ واجتَنَب المحرَّماتِ لنَفسِه فما عليهِ بعدَ ذلك أن يَأمُرَ غَيرَه، ما علَيه ضَررٌ إذا لم يأمرْ غَيرَه ولم يَنْهَ غَيرَه.
بَعضُ النّاسِ عَلِمَ منهُم سيّدُنا أبو بكر أنهم يَفهَمُونَ هذه الآيةَ على هذا الوَجه الفاسِد، فحَذّرَ أبو بكر رضي الله عنه مِن هذا الفَهم الفاسِدِ، قال رضيَ اللهُ عنه سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنّ النّاسَ إذا رأَوُا الظّالمَ ولم يَأخُذُوا على يَدَيهِ أَوْشَكَ أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعِقابٍ منهُ قَبلَ أن يَمُوتوا) يقول أبو بكرٍ أنا سمعتُ رسولَ الله يقول (إنّ النّاسَ إذا رأَوُا الظّالمَ ولم يَأخُذُوا على يَديهِ (أي لم يَمنَعُوه) أَوشَكَ أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعِقابٍ مِن عِندِه) المعنى أنهم يَستَحِقُّونَ أن يَنتَقِمَ اللهُ منهُم في الدُّنيا، لهذا كثيرٌ مِن النّاس لا يُبَالُونَ بالأمرِ بالمعرُوف والنّهي عن المنكَر لا يهتَمُّونَ لذلك، لا يَهتَمُّونَ بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، على زَعمِهم إن هُم صَلَّوا لأنفُسِهم وصَامُوا وحَجُّوا وزَكَّوا أموالَهم وتَجنَّبُوا المحَرَّمات والخمر والفَواحِش إلى غيرِ ذلكَ أنّهم ما عليهم بعد هذا شَىءٌ، هذا غلَط، الإنسانُ عليهِ أن يؤدّي الواجبات لنَفسه ويأمرَ غيرَه ويجتنبَ المحرّماتِ لنَفسِه ويَنهَى غَيرَه إن استَطاع، أمّا إذا لم يَستَطِع فلَيس عليه حَرَجٌ إذا سكَت، إن كانَ النّاسُ لا يَسمَعُونَ له، إن كانَ لا يَرجُو منهُم قَبُولَ كلامِه عندئذ ما عليهِ ذَنبٌ عندئذٍ عليهِ أن يَقتَصرَ لنَفسِه على أداءِ الفَرض واجتنابِ المعاصِي، أمّا إذا أمَرَ الإنسانُ بالمعروف قال لزَوجَته وابنِه وابنَتِه صَلُّوا، أمَرَهم بجِدّ لكن لم يُطِيعُوه فلَيسَ على الرّجُل ذَنب، الذّنبُ على ولَدِه البالغ الذي لا يصَلّي وابنَتِه البالِغَة التي لا تُصَلّي وزَوجَتِه التي لا تُصَلّي، الذّنبُ علَيهم ليسَ عليهِ لأنّه أمرَهُم بجِدّ، ألَحّ علَيهم، لا يَعمَلُ كرَفْع العِتاب فقَط، ففِي هذه الحالِ التي ذكَرنا هو بَرىء مِن ذَنبِهم.
كذلكَ غَيرُ أهلِه، غَيرُ زَوجتِه وأولادِه، إذا أمَرَ النّاسَ الذينَ هُم ليسُوا أقاربَه أمرَهُم بالمعروف ونَهاهُم عن المنكَر فلم يَسمَعوا لهُ فلَيسَ علَيهِ ذَنبٌ، الذّنبُ على أولئك، حتى قالَ العلماءُ إنّه إذا كانَ الرّجلُ يَنهَى امرأتَه عن تَركِ الصّلاةِ وهيَ لا تُطِيعُه لا يجِبُ عليه أن يُطَلّقَها لكن إذا طلَّقَها خَيرٌ له، لهُ ثَوابٌ، المرأةُ التي لا تُصَلّي لا تُحافِظُ على الصّلواتِ إذا طَلَّقَها هذا الطّلاقُ في ثَواب، ليسَ الطّلاقَ المكروه، الطّلاقُ مَكرُوهٌ لكن إذا كانَ لسَبب شَرعيّ مثلِ هذا أي أنّها لا تُصَلّي فطَلَاقُها للرَّجُل فيهِ ثَواب، أمّا إذا كانَ الأمرُ بالعَكس هيَ تُصَلّي وتَأمرُ زَوجَها بالصّلاة فلا يُصَلّي يجُوز لها أن تعِيشَ معه لأنّه بعدُ مَا خرَج مِنَ الإسلام، أمّا إذا كانَ يَسُبُّ اللهَ إذا غَضِبَ حَرامٌ عليها أن تَبِيتَ مَعهُ لَيلةً واحدَة لأنّ النّكاحَ الذي كانَ بَينَهُما، الحَلالَ الذي كان بينَهُما انقَطَع بكُفره، حَرُمَت عليه لا يجُوز لها أن تُسَاكنَه فَضلا عن أن يَستَمتعَ بها، لو كانَ بَينَهُما أولادٌ لا يجُوز لها أن تقُولَ بَيني وبَينَه أولادٌ كيفَ أَتركُه، أَعِيشُ مَعه وأنا كارهَةٌ في نَفسِي لكُفره، هذا لَيسَ عُذرًا، الأولادُ لهم خالقُهم، هي علَيها أن تُطِيعَ ربَّها فَرضٌ علَيها أن لا تُسَاكنَ هذا الزّوجَ الذي كفَرَ ولو يَومًا واحِدًا.
المرأةُ لغَيرِ الكفرِ تَصبِرُ مع زَوجِها لو كانَ تاركَ الصّلاة أو شاربَ الخَمر أو كانَ يَضربُها، يجوزُ لها أن تُعاشِرَه ما لم يَكفُر، أمّا إذا كفَر فلا يجُوزُ لها أن تُعَاشِرَه، وتُسَاكنَه فَضلا عن أن يَستَمتعَ بها، الشّرُّ الكَبيرُ هوَ أن يكونَ هذا الزّوجُ يَكفُر إذا غَضِبَ، هذا البَلاءُ العظيمُ الذي تُبتَلى به كثيرٌ مِن النّساء هؤلاء النّساءُ اللّاتي يَسكُنّ مع هؤلاء الرّجال شَرُّهُنَّ كَبيرٌ عندَ الله، هؤلاء النّساءُ خَرِبَ دِينُهنَّ، فلو تَركَت هذه المرأة بيتَ هذا الرَّجل حتى لا تعَاشِرَه بالحرام لأنّه كفَر ولم يَرجِع إلى الإسلام بالشّهادَة خَيرٌ لها، لو عاشَت خادمَةً تَخدِم النّاسَ وتَأكُل، تنَالُ قُوتَها الضّرُوريَّ خَيرٌ لها مِن أن تَعِيشَ عندَه في رفَاهيَةٍ عِيشَةَ الملُوك، هذا الزَّوجُ لا يَنفَعُها عندَ اللهِ يومَ القِيامَةِ لا يُدافِع عَنها ولا يُحاجُّ عنها يومَ القيامة، ليسَ لهُ هناكَ أن يقولَ يا ربّ هذه أنا قهَرتُها فسَامِحْها، لا يَستَطِيعُ أن يقولَ ذلك، ماذا يَنفَعُها، هذا الرّجلُ قد يَموتُ عنها غدًا أو بَعدَ غَدٍ أو بَعدَ شَهرٍ أو سنةٍ أو أكثرَ أو هيَ تموتُ في مُدّةٍ قَصِيرةٍ.
الموتُ لا بُدَّ مِن أن يُفَرّقَ بينَ المتَحابِّين، جِبريلُ عليه السّلام قال للرسولِ صلى الله عليه وسلم (يا محمّدُ أَحبِبْ مَن شِئتَ فإنّكَ مُفَارقُه) رواه البيهقي وأبو نعيم، معناهُ الإنسانُ مَهما أحَبَّ إنسانًا لا بُدَّ أن يُفَارقَه، كثيرٌ منَ النّساء هذه مُصِيبَتُهُنّ يَقُلنَ أنا لي أولادٌ معهُ أينَ أذهَب، أَترُك هؤلاء الأولاد تتَعكَّر عِيشَتُهم، فتَعِيشُ مع هذا الذي حَرُمَ علَيها ولا تُفَكّرُ في آخِرَتها، تفكيرُها بالدُّنيا هذه، تَفكيرُها القَاصرُ، تَفكيرُها ليَومِها هذا، الدُّنيا نَعيمُها نهايَتُه النَّفادُ بسُرعَة، كم مِن أغنياءَ أصحَابِ الملايين ماتُوا هَمًّا وغَمًّا مِن شِدّة تَفكِيرهِم كيف يُدَبّرُونَ أموالَهم وكيفَ يَحفَظُونَها، ماذا نفَعَهُم غِناهُم، هذا المالُ الوفير، الذي يكفِي عشَرةَ آلآفِ نَفس لو وَزّعَه أحَدُهم، وإذا كانَ الرّجلُ متَقلّبا بالنّعيم اللهُ تَعالى أَخّرَ لهُ عذابَه إلى الآخرة، بعضُ النّاس الذينَ يتَقلَّبونَ في المعاصي وعندَهم نعيم كثير في الدنيا مترفّهون في الدنيا وعندهم ذنوبٌ كثيرةٌ، غَارقونَ بالذّنوب هؤلاء عندَ اللهِ أشّدُ عِقابًا في الآخِرة لأنّ هؤلاء أخّرَ لهم عذَابَهم على ذنُوبِهم إلى الآخِرة.