إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكره ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا شبيهَ له ولا مثيلَ له ولا كيفَ ولا شكلَ ولا صورةَ ولا أعضاءَ له، خلقَ المكانَ ولا يحتاجُ إليه، فهو موجودٌ أزلا وأبدًا بلا مكان، خلقَ العرشَ إظهارًا لقُدرَتِه ولم يتّخِذْه مكانًا لِذَاتِه، تنَزَّه ربِّي سبحانَهُ وتعالى عنِ القُعودِ والجلوسِ والاستقرار والصُّعودِ والنُّزول والاتّصالِ والانفصالِ، خلقَ الأجسامَ اللطيفةَ كالنُّورِ والهواء، والأجسامَ الكثيفةَ كالبشرِ والحجرِ والشّجَرِ، فرَبُّنا ليس حجمًا، ولا يوصفُ بصفاتِ الأجسام، كالألوانِ والحرَكاتِ والسَّكَناتِ، فالحمدُ لله الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ وجعلَ والظُّلماتِ والنُّور.
وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدنا وقرةَ أعيُنِنَا محمَّدا عبدُهُ ورسولُه وصفِيُّه وحبيبُه، بلَّغَ الرِّسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جزى نبِيًّا من أنبيائه، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيِّبينَ الطاهرين وسلِّم تسليما كثيرا.
أما بعدُ أيُّها الناس فاتقوا الله تعالى، يقول الله تبارك وتعالى (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (سورة القصص آية 83).
فلْنتأمّل أيّها الإخوةُ الأحبابُ في هذه الآيةِ الكريمةِ وما تحملُه من معانٍ راقية، فاللهُ سبحانَه وتعالى يَعِدُ عبادَه المؤمنينَ الذين لا يريدونَ العلوَّ في الأرضِ، ولا يريدونَ الفسادَ بالنعيم في الدار الآخرةِ التي هي دارُ المستقرِّ ودارُ الحسابِ، وقد قال الإمامُ عليٌّ رضيَ الله عنه (اليومَ العملُ وغدًا الحسابُ) وغدًا أي يومَ القيامة، يومَ يرى الإنسانُ جزاءَ عملِه، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، يوم القيامةِ تتزلزلُ الأرضُ وتُخرِجُ أثقالَها، وتشهدُ بما كانَ يفعلُ عليها الإنسانُ من خيرٍ وشرٍّ، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، (يَوْمَ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ).
وأما معنى الآيةِ (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)،
(تِلْكَ) تعظيمٌ لها وتفخيمٌ لشأنِها، يعني تلك التي سمِعتَ بذِكْرِها وبلَغَكَ وصفُها،
وقولُ الله تعالى (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا) أي لا يريدونَ بَغْيًا وظُلمًا، ولا يريدونَ فسادً أي عملا بالمعاصي،
(وَالْعَاقِبَةُ) المحمودةُ (لِلْمُتَّقِينَ).
وعنِ الفُضَيلِ أنه قرأها ثم قال (ذَهَبَتِ الأماني ها هنا).
وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنه كانَ يُردِّدُها حتى قُبِضَ، ويُروى عنه رضي اللهُ عنه أنه قال (ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وغنيُّها فقير، فلا يَغُرَّنَّكُم إقبالُها مع معرفتِكم بسرعةِ إدبارِها، والمغرورُ منِ اغترَّ بها، أي سُكّانُها الذين بَنَوا مدائنَها وأقاموا فيها أياما يسيرة، غرّتهُم بِصِحَّتِهِم، وغُرُّوا بنشاطِهم بالمعاصي، فَرَكِبُوا المعاصيَ، ما صَنَعَ الترابُ بأبدانهم، والرملُ بأجسادهم، والديدانُ بعظامهم وأوصالِهم، كانوا في الدنيا على أسِرّةٍ مُمَهّدةٍ بينَ خدمٍ يَخدِمون، وأهلٍ يُكرِمون، وجيرانٍ يَعضُدُون، فإذا مررتَ فنادِهِم إن كنتَ مناديا، وسلْ غنيَّهم ما بقي من غناه، وسلْ فقيرَهم ما بقيَ من فقره، وسلهم عن الجلودِ الرقيقة والوجوهِ الحسنةِ، فكم من ناعمٍ وناعمةٍ أصبحوا ووجوهُهم باليةٌ وأجسادُهم من أعناقهم نائية، وأوصالُهم ممزقة، قد سالَتِ الحَدَقُ على الوجَناتِ وامتلأتِ الأفواهُ دما وصديدا، ودَبَّتْ دوابُّ الأرضِ في أجسادِهم فَفَرَّقَت أعضائَهُم ثم لم يلبَثُوا، واللهِ، إلا يَسِيْرًا، حتى عادتِ العِظامُ رميما).
وقال بعضُهم عن هذه الآيةِ حقيقتُهُ التَّنْفِيرُ عن متابعةِ فرعونَ وقارونَ مُتَشَبِّثًا بقوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) الآيةَ، وبقوله تعالى (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ).
إخوة الإيمان، لقد كان قارونُ عمَّ ابنِ سيدِّنا موسى عليه السلام، وقد رزقَه الله تعالى سَعَةً في الرّزقِ وكثرةً في الأموالِ حتى فاضتْ به خزائنُه، فلم يَعُدْ يستطيعُ حملَ مفاتِيْحِها جَمْعٌ مِنَ الرِّجالِ الأقوياء، لكنْ قارونُ لم يكن عبدًا شَكُورا، فبدلا مِنْ أنْ يُطيعَ اللهَ تعالى أخَذَ يَغْتَرُّ بنفسه ويتكبّرُ على قومه، ويُروَى أنه عندما أُنزلتْ فَرْضيةُ الزَّكاةِ على سيِّدِنا موسى عليه السلام أخبرَ قومَه بما يجبُ عليهم وقال لِقَارونَ مُذكِّرًا إيَّاهُ بتقوى الله وحقِّه أنَّ على كلِّ ألفِ دينارٍ دينارا، وعلى كلِّ ألفِ درهمٍ دِرْهَما، فحسَبَ قارونُ ما يترتَّبُ عليه مِنْ زكاةٍ فاستكثَرَهُ، فَشَحَّتْ نفسُه فَكَفَرَ بما جاءَ به موسى عليه السلام، وقال لجماعَتِهِ ءامُرُكُم أن تُحْضِرُوا سْبِرْتَا العاصيةَ فتجعلوا لها أُجرةً على أن تزعُمَ أن موسى أراد الزنى بها، والعياذ بالله تعالى، ففعلوا ذلك وأرسلوا لها طَستًا منْ ذهبٍ مملوءًا قِطَعًا ذهبية، فلما كان يومُ عيدٍ لهم قال قارونُ لسيِّدِنَا موسى (إنَّ بني إسرائيلَ يزعُمون أنك فجَرْتَ بـ (سبرتا))، فقالَ عليه السلام ادعُوها، فلما جاءتْ اِستَحْلَفَها موسى عليه السلام بالله تعالى الذي فلقَ البحرَ وأنزلَ التوراةَ أن تَصْدُق، فتدارَكَها اللهُ تعالى برحمته فتابتْ وتبرَّأتْ مما نَسَبُوا إلى موسى وقالتْ كذَبُوا، بل جعل ليَ قارونُ أُجرةً على أن أَتَّهِمَكَ بالزنى، فسجدَ موسى عليه السلام ودعا اللهَ على من ظَلَمَه فأوحى اللهُ تعالى إليه مُرِ الأرضَ بما شئتَ فإنها مُطيعةٌ لك.
وفي اليومِ التالي خرجَ قارونُ كعادَتِهِ في موكبٍ كبيرٍ يضمُّ ءالافَ الخدَمِ والحشَمِ وقد تَزَيَّنَتْ ثيابُهم بالذَّهَبِ والجواهرِ ورَكِبُوا على بغالهم وأفراسِهم وهو يتقدّمُهُم على بغلةٍ شَهْبَاءَ زيَّنَها وقدِ ارتَدَى أجملَ ثيابِه وأفخرَها مَزْهُوًّا بنفسِه متطاولا، والناسُ على الجانبين ينظرونَ إليه بدهشة، ومنهم منِ اغترَّ به فقال هنيئا لقارونَ إنه ذو حظٍّ عظيم، مالٌ وجاه، فلما سمعَهُم بعضُ الصالحين مِنْ قومِهِم نَصَحُوهُم أنْ لا يغترُّوا بزهرةِ الدُّنيا فإنها غرَّارة، ودعا سيِّدُنا موسى فقال يا أرضُ خُذِيْهِم، فأخذَتِ الأرضُ قارونَ الملعُونَ ومَنْ مَعَه مِنْ أتباعِهِ الخبثاء، قال الله تعالى (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) ولما حلَّ بقارونَ ما حلَّ من خسفِ الأرضِ وذهابِ الأموالِ وخرابِ الدارِ وخسفِها ندمَ مَن كان تمنى مثلَ ما أُوتيَ وشكروا اللهَ تعالى أن لم يجعلْهُم كقارونَ طغاةً مُتَجَبِّرِينَ مُتَكَبِّرينَ فيَخسِفَ بهِمُ الأرض.
معاشرَ المسلمين، إنَّ التواضعَ زينةُ المؤمنين، وسَمْتُ المهتدين، الذين لا يريدونَ علوًّا في الأرضِ ولا فسادًا، يُحِبُّونَ إخوانَهم في الله، وَيَلِيْنُونَ في أَيْدِيْهِم، ولا يُظْهِرُونَ تَجَبُّرًا ولا عَنَتًا ولا فسادا، أولئك همُ الفائزون، فقد قال تعالى ءامِرًا رسولَه صلى الله عليه وسلم بِخُلُقِ التَّواضُع (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) والمعنى أَلِنْ جانِبَكَ لِمَنْ ءامَنَ بِكَ وتواضَعْ لهم.
اللهم اجعلنا من عبادِك المتواضعين الزاهدين الصالحين العابدين الناسكين الوالهين بمحبَّتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.